الغد
د. مروة بنت سلمان آل صلاح
في زمن تشبعت فيه الأسواق بالمنتجات المتقاربة، وتراجعت فيه المؤشرات الفارقة بين جودة السلع، لم تعد المنافسة تحسم بالإنتاج، بل بالانطباع الأول.
لم يعد المستهلك يفتن بما تراه عينه فقط، بل بما ترويه التجربة وتلمسه الروح.
وهكذا، ولدت موجة اقتصادية جديدة تعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والسوق، بين السلعة والشعور، بين المنتج والحكاية. إنها موجة اقتصاد التجربة.
في هذا الاقتصاد، لا تباع المنتجات بخصائصها التقنية فقط، بل بالقصة التي ترافقها. لم تعد القيمة في الكوب أو الهاتف أو الحقيبة، بل في التجربة التي يعيشها المستخدم أثناء اقتنائه لها. لم تعد الماركات تتنافس على الحجم أو السعر، بل على نوعية اللحظة التي تتركها في ذاكرة المستهلك. وهذا ما تصنعه اليوم العوالم الذكية عبر الذكاء الاصطناعي، الواقع المعزز، ومنصات التفاعل الحسي: تصنع قيمة شعورية قابلة للقياس، وقابلة للتصدير.
فالذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة تحليل، بل أصبح عنصرا مركزيا في صناعة الشعور. يفهم المستخدم، يتتبع سلوكياته، يتنبأ بتفضيلاته، ويصمم تجربة تفاعلية تشبهه. التطبيق لم يعد واجهة، بل سيناريو حي. والمنصة لم تعد خدمة، بل عالم متكامل يحاكي شخصيتك ويمنحك شعور الانتماء. إنه اقتصاد تشترى فيه الهوية والانطباع والتجربة قبل المنتج ذاته.
وهنا، أمام هذا التحول العالمي، يقف الأردن على عتبة فرصة نادرة. فبينما تتسابق الدول لرقمنة أسواقها، يمتلك الأردن ما هو أعمق: تجربة إنسانية أصيلة، لا يمكن استنساخها ولا تقليدها.
في الجنوب، مثلا، في مدينة معان، حيث تقف "مدينة الحجاج" شاهدة على قرون من العبور الروحي، نجد مثالا حيا على تجربة إنسانية حقيقية كانت وما تزال تتكرر موسما بعد آخر، ولكنها لم تقدم بعد كمنتج اقتصادي ذكي. في تلك المدينة، كانت الطريق إلى الحجاز مفعمة بالقيم والرموز والضيافة والمشاعر التي لا ينسى أثرها كل من عبرها.
هذه ليست مجرد نقطة جغرافية، بل تجربة وطنية قابلة للتجسيد تكنولوجيا عبر تقنيات الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي. تخيلوا، لو قدمت تجربة الحاج كما عاشها أسلافنا لا في كتاب، بل في منصة ذكية يتفاعل معها الزائر، يسمع فيها نبض الخطى، ويرى فيها التاريخ ينبض بالصوت والصورة والحس.
وما مدينة الحجاج إلا نموذج واحد لما يملكه الأردن من موارد غير مادية تؤهله لريادة اقتصاد التجربة: نحن نمتلك أصالة الضيافة، وثراء الحكاية، ودفء العلاقة، وتنوع الهوية. ما نحتاجه فقط هو إعادة تصميم ما نملكه بمنطق التجربة الذكية. من الحرف اليدوية إلى التعليم، من الخدمات إلى الثقافة، من المتاحف إلى الأسواق كل شيء يمكن أن يعاد تقديمه كمنصة شعورية، وليس كعنصر مادي فقط.
تحويل التجربة إلى قيمة سوقية: كيف يُسعر الإحساس؟
يطرح دائما السؤال حول آلية تحويل تجربة غير مادية إلى أصول اقتصادية قابلة للتداول والاستثمار. الجواب يكمن في تجزئة التجربة الرقمية إلى منتجات وخدمات قائمة على المشاعر والتفاعل، قابلة للقياس والتحليل: اشتراكات متميزة في منصات تجارب تفاعلية (مثل الجولات الافتراضية الواقعية لمنطقة الحجاج في معان أو المواقع الأثرية) توفر محتوى مخصصا وذا قيمة عالية للمستخدمين حول العالم.
بيع بيانات التفاعل المحمية التي تسمح بفهم أعمق للسوق الثقافي والاحتياجات السياحية والاقتصادية، وهو سوق ناشئ يقدر بمليارات الدولارات.
منتجات رقمية ذات هوية محلية، مثل القطع الفنية الرقمية المرتبطة بالتراث الأردني، أو تصاميم الواقع المعزز التي تستخدم في السياحة والتعليم.
شراكات مع قطاعات السياحة والضيافة لبناء برامج تجربة شخصية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وتحول التفاعل إلى خدمة مدفوعة تضمن ولاء العملاء ورفع القيمة الاقتصادية.
التعليم والتدريب التفاعلي الموجه عبر التجربة الرقمية، الذي يفتح أسواقا تعليمية جديدة تستهدف الطلاب العالميين الباحثين عن محتوى غامر وذي قيمة ثقافية عالية.
كل هذه الأدوات تحول التجربة من مجرد إحساس غير ملموس إلى سلسلة من المنتجات والخدمات المترابطة التي تخلق قيمة اقتصادية قابلة للقياس، التطوير والتصدير.
يملك الأردن عناصر استثنائية لبناء اقتصاد التجربة: ليس لأننا نملك موارد وفيرة، بل لأننا نملك روايات أصيلة لا يمكن تكرارها.
في الضيافة نروي العلاقة لا الخدمة.
في التعليم نعلم بالوجدان لا فقط بالمنهج.
في الحرف نحفظ الذاكرة لا ننتج فقط أدوات.
ما نحتاجه اليوم هو إعادة تقديم هذه الروايات بلغة العوالم الذكية:
- عبر منصات واقع معزز تفاعلية.
- عبر المتاحف الرقمية الحية.
- عبر تجربة الزائر في المطار، والمقهى، والمتجر، والمدرسة.
وكابنة لهذه الأرض، كابنة للصحراء التي تحفظ الحكاية في نسمة الريح وصدى الخطى، أؤمن أن في عاداتنا، أزيائنا، مأكولاتنا الشعبية، وحتى في أهازيجنا الحية، طاقة وجدانية يمكن برمجتها لتصبح محتوى غامرا يثري المتاحف الرقمية، ويخلد التراث العشائري بهوية رقمية راقية. ليس فقط للحفاظ عليه، بل لتحويله إلى سردية اقتصادية عابرة للحدود. المتاحف لم تعد جدرانا تحفظ الآثار، بل منصات تروي الروح. ومثلما تحفظ الرمال آثار القوافل، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحفظ ذاكرة الشعوب بأسلوب يعيد تقديم الأردن للعالم من نافذة التجربة الأصيلة.
نحن لا نبيع منتجا، بل نصدر إحساسا قابلا للعيش بلغات متعددة، وأزمنة متزامنة.
اقتصاد التجربة لا يطلب منا أن نزيد من حجم الإنتاج، بل أن نبدع في طريقة تقديمه. أن نرى كل منتج أردني كوسيلة لحكاية، وكل خدمة كفرصة لعلاقة وجدانية، وكل مدينة كمسرح تفاعلي لقصة أردنية تروى بلغات متعددة.
وفي الخاتمة، أقولها لا بوصفها نظرية، بل بوصفها إيمانا أصيلا من خبرتي في الذكاء الاصطناعي وتطوير المدن: الأسواق القادمة لن تسأل عن ما ننتج فقط، بل عن ما نشعر.
ومن لا يحسن تصميم القصة سيستهلك لاحقا كخلفية في حكايات الآخرين.
أما الأردن، فقصته تستحق أن تعاش، تروى وتصدر.
ونحن الجيل الذي لا يكتفي بتكرار الحكاية، بل يبرمجها، يحاكيها، ويمنحها الخلود التفاعلي. جيل يصنع من الحنين منتجا، ومن التجربة اقتصادا.