الدستور
تُشكّل التسهيلات الائتمانية التي تقدمها البنوك للقطاعات الاقتصادية شريانًا حيويًا يضخ السيولة في قلب النشاط الاقتصادي، ويُبقي عجلة الإنتاج والاستثمار والتشغيل في حالة دوران. ففي كل اقتصاد حديث، تُعد قدرة البنوك على توفير الائتمان من أهم أدوات التمكين للنمو، ومن أبرز المحددات لاتساع قاعدة الأعمال والاستثمارات، بما ينعكس في نهاية المطاف على رفع مستوى الدخل وفرص العمل.
وفي الحالة الأردنية، تظهر البيانات الرسمية أن ما نسبته 75 ٪ من إجمالي الودائع في البنوك يُعاد توجيهها على شكل تسهيلات ائتمانية للقطاعات الاقتصادية المحلية، وأن 85.7 ٪ من اجمالي رصيد تلك التسهيلات (35.3 مليار دينار كما في نهاية أيار 2025) ذهبت للقطاع الخاص (مقيم). بمعنى آخر، يمكن القول أن التسهيلات الائتمانية تسهم بما نسبته 60-70 ٪ من السيولة المعاد تحريكها داخل الاقتصاد الأردني، بشكل غير مباشر، من خلال إعادة تدوير الودائع وتحفيز الاستهلاك والاستثمار. هذه النسبة المرتفعة توحي بدور فاعل للقطاع المصرفي في تحريك عجلة الاقتصاد، لكنها في الوقت ذاته تطرح تساؤلات جوهرية حول كفاءة هذا التوزيع ومدى توافقه مع أولويات التنمية الاقتصادية المستدامة.
عند النظر في خريطة توزيع التسهيلات، وفقًا لبيانات أيار 2025، حسب النشرة المصرفية الشهرية لجمعية البنوك في الاردن، يتضح أن أربعة قطاعات اقتصادية رئيسية تستحوذ على الحصة الكبرى من إجمالي التسهيلات، وهي: الإنشاءات (22.1 ٪)، الخدمات العامة والمرافق (18.0 ٪)، التجارة العامة (16.3 ٪)، وأخرى (24.4 ٪ وأغلبها للأفراد)، حيث تستحوذ هذه القطاعات الأربعة مجتمعة على نحو 80.8 ٪ من إجمالي رصيد التسهيلات الائتمانية، أي ما يعادل 28.3 مليار دينار أردني. في حين أن الصناعة تستحوذ على حصة صغيرة نسبيًا لا تتجاوز 11.4 ٪ من اجمالي رصيد التسهيلات الائتمانية.
هذا التوزيع في التسهيلات الائتمانية يعكس طبيعة الاقتصاد الأردني الذي ما زال يعتمد بشكل كبير على القطاعات التقليدية، إلا أن هذا الاعتماد يثير تساؤلات حول محدودية التنوع الاقتصادي، وإمكانية نشوء قطاعات جديدة قادرة على دفع عجلة النمو بقوة أكبر، خاصة في ظل التحولات العالمية نحو الاقتصاد المعرفي، والطاقة النظيفة، والصناعات عالية القيمة.
وتشير تحليلات أُخرى إلى أن زيادة التسهيلات الائتمانية الممنوحة للقطاعات الاقتصادية بنسبة 10 ٪ تؤدي إلى زيادات متفاوتة في القيمة المضافة، إذ ترتفع 6 ٪ في قطاع الخدمات، و5.7 ٪ في قطاع الصناعة، و2.7 ٪ في قطاع الإنشاءات. وتُبرز هذه النسب أن الأثر المتحقق يختلف باختلاف القطاع، وأن بعض القطاعات تمتلك قدرة أكبر على تحويل التمويل إلى نمو ملموس، بينما يكون الأثر محدودًا في قطاعات أُخرى، ما يستدعي إعادة التفكير في توزيع السيولة البنكية.
البنوك، بطبيعتها، مؤسسات تجارية تسعى للربح وتقليل المخاطر. ولهذا فإنها تميل إلى تمويل القطاعات التي توفر ضمانات كافية أو تمتلك أصولًا قابلة للرهن، ما يجعلها تنأى غالبًا عن المشاريع الصغيرة والمتوسطة، أو تلك الناشئة في مجالات الابتكار والتكنولوجيا. وعلى الرغم من أن هذه الأخيرة تُعد الأكثر قدرة على خلق فرص العمل وتحقيق نمو نوعي، إلا أنها تُواجه صعوبات في الوصول إلى التمويل، بسبب الإجراءات الصارمة، وكثرة الضمانات، وغياب أدوات تمويلية مرنة تتلاءم مع احتياجاتها.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن التركيز الزائد على قطاعات مثل الإنشاءات والعقارات قد يقود إلى نشوء فقاعات عقارية، وتراجع الاستثمار طويل الأجل في القطاعات الإنتاجية. كما أن اعتماد البنوك على القطاعات الأقل مخاطرة قد يعكس ضعفًا في التنوع والتجديد، ويُكرّس حلقة التمويل المغلقة حول قطاعات استهلاكية أو خدمية تقليدية.
إن هذه المعطيات تفرض ضرورة إعادة توجيه السيولة الائتمانية نحو الوجهة الصحيحة، بما ينسجم مع الرؤية الوطنية للنمو والتشغيل، ويسهم في بناء قاعدة اقتصادية أكثر توازنًا وتنوعًا.
يُثبت واقع توزيع التسهيلات الائتمانية في الأردن أن الكم وحده لا يكفي، بل المهم هو أين تُضخ السيولة؟ فبقاء التمويل محصورًا في قطاعات تقليدية ومشبعة يحد من قدرة الاقتصاد على خلق نمو نوعي ومستدام. وعليه، فإن المطلوب هو مراجعة شاملة للسياسات الائتمانية المتّبعة، باتجاه ضخ السيولة في الاتجاه الصحيح، من خلال ما يلي:
1. إعادة توجيه التسهيلات نحو القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة العالية، مثل التكنولوجيا، الصناعات التحويلية المتقدمة، الطاقة المتجددة، والسياحة المتخصصة.
2. تبني أدوات تمويل مبتكرة موجهة للشركات الناشئة والصغيرة والمتوسطة، تشمل ضمانات جزئية، صناديق استثمارية مشتركة، أو تمويل قائم على الملكية أو الإيرادات.
3. تعزيز الشمول المالي والتوسع في الحلول الرقمية والمالية التكنولوجية (Fintech) لتسهيل الوصول للتمويل في المناطق الطرفية والمجتمعات غير المخدومة مصرفيًا.
4. تحسين البيئة التنظيمية والضريبية بما يشجع البنوك على تمويل القطاعات ذات المخاطر المدروسة دون التخوف المفرط.
5. إرساء شراكة استراتيجية بين الحكومة، البنك المركزي، والبنوك التجارية لتوجيه السيولة المصرفية بما يخدم الأولويات الاقتصادية، ويحقق التوازن بين الأهداف الربحية والأثر التنموي.
6. تطوير مؤشرات لقياس الأثر التنموي للتمويل الائتماني، لا تقتصر على العوائد المالية، بل تمتد إلى المساهمة في النمو، التشغيل، وتقليص الفجوة التنموية بين المناطق.
إن بناء اقتصاد أكثر مرونة واستدامة يبدأ من إعادة ضبط بوصلة الائتمان، وتوجيه تدفقات السيولة نحو قطاعات المستقبل. فتمويل الإنشاءات والتجارة مهم، لكنه غير كافٍ إذا بقي الاقتصاد حبيس هذه الدوائر. المطلوب اليوم أن يتّخذ القطاع المصرفي موقعه كشريك استراتيجي في التنمية، لا مجرد ممول تقليدي، وأن يتحول من ممثل لرأس المال الباحث عن الأمان إلى قوة دافعة نحو الابتكار والفرص والنمو الحقيقي.
إن ضخ السيولة في الاتجاه الصحيح ليس ترفًا، بل خيار اقتصادي وسياسي واجتماعي لا يمكن تأجيله إذا أردنا لأردننا أن ينتقل من النمو المتواضع إلى ازدهار مستدام يحفظ كرامة الإنسان، ويوفر الفرص لأبنائه، ويعزز مناعته في وجه التحديات. إن استمرار تباطؤ النمو الاقتصادي لأكثر من عقد ونصف ليس مجرد مؤشر عابر، بل إنذار صريح بضرورة إعادة توجيه بوصلة الائتمان فورًا، وبأقصى درجات الحزم والجدية.