الدستور
تُعدّ المديونية العامة في الأردن من أبرز التحديات التي تتقاطع فيها اعتبارات الاقتصاد الكلي مع مقتضيات الحوكمة المالية والتنمية المستدامة. وقد شكّلت على مدى السنوات الماضية محورًا أساسيًا في السياسات الاقتصادية، نظراً لتأثيرها المباشر على استقرار المالية العامة، وتوازنات الموازنة، وآفاق النمو طويل الأجل. وفي ضوء المستجدات الراهنة، بات من الضروري تحليل واقع المديونية بكل مكوناته، وتسليط الضوء على عناصره الجوهرية التي ينبغي أن تحظى بنقاش مؤسسي هادئ ومسؤول، بعيداً عن التهوين أو التهويل.
تشير البيانات الرسمية إلى أن إجمالي الدين الحكومي القائم بلغ نحو 35.8 مليار دينار حتى نهاية الربع الأول من عام 2025، أي ما يعادل 91.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك باستثناء الديون المستحقة لصندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي. وإذا ما أُدرجت هذه الالتزامات، والتي بلغت في ذات الفترة نحو 9.8276 مليار دينار، فإن إجمالي الدين العام يرتفع إلى حوالي 45.6 مليار دينار، لتتجاوز نسبته 116% من الناتج المحلي، وفقًا لتقديرات محايدة تستند إلى البيانات الصادرة عن وزارة المالية والبنك المركزي. ويعكس هذا الواقع فجوة هيكلية متراكمة تتطلب معالجتها بصورة متدرجة ومنهجية، لا تستند إلى إجراءات محاسبية شكلية، بل إلى إصلاحات جوهرية تستند إلى الشفافية والمصداقية المالية.
لقد لعبت الظروف الاقتصادية الاستثنائية في العقد الأخير، ومنها تباطؤ النمو، وتراجع المنح الخارجية، وارتفاع كلف الاستقرار الاجتماعي، دورًا كبيرًا في تصاعد الدين العام. غير أن جانبًا تشريعيًا لا يمكن إغفاله يتمثل في قرار سابق بتجميد تطبيق المواد (21 و22 و23) من قانون الدين العام، والتي كانت تضع سقوفًا ملزمة لنسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وتُلزم الحكومة بوضع خطة زمنية لخفضه. وقد أتاح هذا التعليق مساحة واسعة لسياسات تمويلية توسعية دون وجود آلية قانونية حاكمة تحدد حدود الاقتراض وتربطه بقدرة الاقتصاد على التحمل. وإن استعادة هذه النصوص، أو إعادة صياغة بدائلها ضمن قانون مالي حديث، يُعد خطوة في الاتجاه الصحيح نحو ضبط النمو في الدين، وتعزيز مصداقية السياسات المالية على المستويين المحلي والدولي.
أما بخصوص الدين المستحق لصندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي، فإن استبعاده من الحسابات الرسمية للدين العام يتطلب مراجعة متأنية. فعلى الرغم من أن هذا الدين يتم ضمنياً اعتباره «آمنًا» كونه داخلي المصدر ويُدار ضمن مؤسسات الدولة، إلا أن حجمه المتنامي، والذي يقارب الآن 10 مليارات دينار، يحتم النظر إليه بوصفه جزءًا من الالتزامات السيادية الحقيقية، لا سيما أنه يتم تمويله من أموال اشتراكات المؤمن عليهم، ويتطلب ضماناً فعليًا مستدامًا للسداد. كما أن المعايير الدولية، مثل نظام إحصاءات المالية الحكومية (GFS 2014)، توصي بإدراج مثل هذه الالتزامات ضمن الحسابات العامة، لأغراض الإفصاح الكامل وتحسين أدوات الرقابة.
ومن جهة أخرى، تُطرح مسألة إدماج الاقتصاد غير الرسمي ضمن احتساب الناتج المحلي كوسيلة لتخفيض النسبة الشكلية للدين العام. ورغم أهمية دمج هذا القطاع لتعزيز القاعدة الضريبية وتحقيق العدالة، إلا أن استخدامه فقط لتقليص النسبة الحسابية للدين دون أن يصاحب ذلك توسع حقيقي في الإيرادات أو الإنتاج، قد يؤدي إلى استنتاجات غير دقيقة ويمنح مبررات ظاهرية لمزيد من الاقتراض، وهو ما يستوجب الحذر والانتباه.
إن السبيل إلى تخفيض عبء المديونية لا يمر فقط عبر إجراءات تقشفية أو زيادة إيرادات آنية، بل يتطلب نهجًا إصلاحيًا متكاملًا يوازن بين الانضباط المالي وتحفيز النمو، ويقوم على عدة مرتكزات أهمها: إعادة ضبط هيكل الإنفاق العام ليصبح أكثر كفاءة وارتباطًا بالأولويات الوطنية، وتعزيز الاستثمارات الإنتاجية، واعتماد قواعد مالية مرنة ولكن ملزمة، ترتبط بمؤشرات الأداء الاقتصادي. كما أن إعادة النظر في هيكل الدين نفسه من حيث آجاله وكلفته ومصادره، من شأنه أن يعزز الاستقرار المالي ويُخفف من وطأة خدمة الدين على الموازنة العامة.
إن الاعتراف الكامل بحجم الالتزامات، والتدرج في تصحيح المسار المالي، وتوفير بيئة قانونية ومؤسسية حاكمة، هي عناصر ضرورية لبناء الثقة وتعزيز الاستدامة المالية. والتحدي لا يكمن فقط في تخفيض نسبة الدين، بل في إدارة مخاطره وضمان توجيهه نحو أهداف تنموية واقتصادية ذات أثر حقيقي، بما يخدم المصالح الوطنية ويؤمن الأجيال القادمة ضد أعباء مالية لا مبرر لها.