الراي
كتب محرر الشؤون الاقتصادية
نتائج اكتوارية تؤكد استدامة الصناديق التأمينية
التقاعد المبكر والتهرب التأميني تحديات تستدعي المعالجة
مؤشرات تؤكد قدرة المؤسسة على الوفاء بالتزاماتها
إصلاحات مرتقبة تستند للأرقام وتحولات سوق العمل
الاستدامة المالية وحماية الحقوق أولوية عبر الحوار الوطني
تؤكد المؤشرات الاكتوارية الحديثة أن المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي ما تزال تمثل أحد أعمدة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في الأردن، ليس فقط بوصفها مظلة حماية لمئات آلاف العاملين والمتقاعدين، بل كأحد أكبر المؤسسات المالية ذات الأثر طويل الأمد على الاقتصاد الوطني.
فالقراءة المتعمقة لنتائج التقييم الاكتواري الأخير تكشف عن مركز مالي متين، وقدرة عالية على الوفاء بالالتزامات التأمينية، مدعومة بتدفقات اشتراكات مستقرة وعوائد استثمارية وأصول متراكمة، وهو ما يضع المؤسسة في موقع متقدم مقارنة بالعديد من أنظمة الحماية الاجتماعية في المنطقة.
وتبرز قوة الضمان الاجتماعي بشكل أوضح في التأمينات قصيرة ومتوسطة الأجل، كإصابات العمل والأمومة والتعطل عن العمل، التي أثبتت قدرتها على تمويل ذاتها بكفاءة عالية، دون استنزاف الأصول أو الاعتماد على العوائد الاستثمارية، وهو مؤشر صحي يعكس سلامة التصميم التأميني وحسن الإدارة المالية.
اقتصاديا، فإن ابتعاد نقطة التعادل الأولى لسنوات مقبلة يشير إلى أن النظام ما يزال في مرحلة آمنة، حيث تغطي الاشتراكات النفقات التأمينية بشكل مباشر، وهو ما يمنح صانع القرار مساحة زمنية كافية للتحرك المدروس، بعيدًا عن الحلول القسرية أو المفاجئة التي شهدتها تجارب دولية أخرى.
لكن في المقابل، لا تغفل المؤسسة عن التحديات البنيوية التي تواجه تأمين الشيخوخة والعجز والوفاة، وهو التأمين الأثقل كلفة والأطول أمدا، فارتفاع فاتورة هذا التأمين لا يرتبط بضعف مالي بقدر ما يرتبط بتحولات ديموغرافية وسلوكية، في مقدمتها التوسع الكبير في التقاعد المبكر، الذي تحول من استثناء تشريعي إلى مسار شبه طبيعي، ما أدى إلى تقليص سنوات الاشتراك مقابل إطالة سنوات الاستفادة.
وتزداد هذه التحديات تعقيدا في ظل ارتفاع متوسط العمر المتوقع، وتراجع معدلات الخصوبة، وانكماش قاعدة الداخلين الجدد إلى سوق العمل، وهي عوامل تضغط على أي نظام تقاعدي في العالم، لكنها تصبح أكثر حساسية عندما تقترن بتهرب تأميني وشمول غير مكتمل للقوى العاملة.
ومن هنا، فإن أهمية ما تطرحه المؤسسة لا تكمن في تشخيص التحديات فحسب، بل في تبنيها نهجا استباقيا قائما على الإصلاح التدريجي، والحوار الوطني، والشفافية في عرض الأرقام، بعيدا عن منطق إدارة الأزمات، فالدعوة إلى تعديلات تشريعية ليست مؤشر ضعف، بل دليل نضج مؤسسي ووعي بأن الاستدامة لا تتحقق بالجمود، بل بالتكيف مع المتغيرات الاقتصادية والديموغرافية.
كما أن التأكيد على عدم المساس بحقوق المؤمن عليهم، خصوصًا من أمضوا سنوات طويلة في الاشتراك، يعكس إدراكًا عميقًا لحساسية الملف اجتماعيًا، وحرصًا على تحقيق معادلة صعبة تجمع بين العدالة الاجتماعية والاستدامة المالية.
الضمان الاجتماعي يظهر اليوم كمؤسسة قوية، لا لأنها خالية من التحديات، بل لأنها تمتلك الأدوات والبيانات والجرأة اللازمة لمواجهتها في الوقت المناسب، وهذه المقاربة، إذا ما استكملت بإصلاحات متوازنة وتوسيع قاعدة الشمول، ستبقي الضمان الاجتماعي صمام أمان اقتصادي واجتماعي للأردن، وركيزة أساسية في حماية حقوق الأجيال الحالية والقادمة.