إلغاء "قانون قيصر".. التأسيس لاستقرار سورية وإعادة التعاون الإقليمي
الغد-إيمان الفارس
يمثل تصويت الكونغرس الأميركي على إلغاء "قانون قيصر" خطوة إستراتيجية، تؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات الاقتصادية والسياسية بين سورية والدول الإقليمية، مع ربط الدعم الأميركي بالاستقرار السياسي والأمني، ما ينعكس مباشرة على إعادة ترتيب التوازنات في الإقليم بما يخدم الاستقرار الشامل بالمنطقة.
فتصويت مجلس النواب الأميركي على إلغاء هذا القانون، بمنزلة نقطة تحول بارزة في مقاربة واشنطن للملف السوري، إذ أثار توقعات كبيرة، لدعم تعافي الاقتصاد السوري، وتعزيز استقرار الحكومة الجديدة. وهو قرار يأتي ضمن مشروع قانون موازنة الدفاع الأميركية، إذ حاز على أغلبية واضحة في المجلس، ما يعكس توجه الإدارة الأميركية لإعادة ترتيب العلاقة مع سورية بعد سنوات من العقوبات التي فرضت عليها منذ العام 2019، وما صاحبها من ضغوط اقتصادية، ألقت بآثارها القاتمة على دمشق ودول الجوار، لا سيما الأردن.
خبراء في الشأن السياسي والإستراتيجي، بينوا في تصريحات منفصلة لـ"الغد"، أن إلغاء القانون جاء نتيجة تراكم جهود دبلوماسية متعددة في السنوات الماضية، بما في ذلك مسارات تفاوضية عربية وإقليمية، ونتائج اجتماعات "خماسية عمّان" التي ركزت على أهمية رفع العقوبات لتحقيق استقرار اقتصادي وسياسي.
وقد أتاح هذا القرار لسورية حرية أكبر بتحريك عجلة النشاط الاقتصادي والاستثماري، وفتح الباب أمام الدول المجاورة لاستكشاف فرص جديدة للتعاون التجاري والاستثماري، بما يسهم بإعادة تنشيط الطرق الحيوية بين سورية وتركيا وأوروبا، وبالتالي دعم حركة الاقتصاد الإقليمي.
ومن منظور سياسي وأمني، اعتبر المحللون بأن القرار الأميركي يعكس تحولا إستراتيجيا يربط الدعم الاقتصادي والسياسي لمستقبل سورية، بقدرة الحكومة الجديدة على إدارة الشؤون الداخلية والالتزام بالاستقرار الإقليمي، بما يشمل ضبط الحدود ومنع تمدد المليشيات وضمان الامتثال لتفاهمات الأمن الإقليمي، خصوصا مع كيان الاحتلال.
وربطت الإدارة الأميركية هذا التوجه، بمحورية مرحلة انتقال سياسي، يُتوقع بأن تشهدها سورية، بحيث يصبح الاقتصاد القابل للحياة شرطا أساسيا لمنع الفوضى وضمان استقرار النظام الجديد.
بناء علاقات خارجية أكثر توازنا
وفي هذا السياق، أكد الخبير والمحلل العسكري والإستراتيجي د. نضال أبو زيد، أن تصويت "النواب الأميركي" على إلغاء "قانون قيصر"، مثّل تحولا لافتا في مقاربة واشنطن للملف السوري. مبينا إنه تحول جاء نتيجة تراكم جهود دبلوماسية متعددة في السنوات الماضية، مضيفا أن القانون الذي فرض على سورية منذ العام 2019، شكّل عبئا اقتصاديا ثقيلا ليس على دمشق وحدها، بل على دول الجوار أيضا، وفي مقدمتها الأردن الذي عانى من انعكاسات مباشرة تمسّ اقتصاده والتبادل التجاري.
وأشار أبو زيد، إلى أن الجهود الدبلوماسية الأردنية لعبت دورا مؤثرا في الدفع نحو إلغاء القانون، إلى جانب ما حققته دمشق من تجسير دبلوماسي مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول في الإقليم، لافتا إلى أن حسن النوايا الذي أظهرته سورية ومحاولتها إعادة بناء علاقات خارجية أكثر توازنا، انعكسا إيجابا على قرار الإلغاء، الذي يعتبر نتيجة طبيعية لمسار تفاوضي وسياسي طويل.
واستحضر هنا، مخرجات "خماسية عمّان" التي انعقدت بين عامي 2024 و2025، والتي أكدت ضرورة إلغاء القانون، مشيرا إلى أن الأردن كان لاعبا محوريا في ذلك المسار، إذ إن ثمرة هذا الجهد ظهرت اليوم عبر التحول الأميركي الذي لم يكن ليحدث لولا تنسيق عربي واضح، وإجراءات سورية متدرجة لاستعادة علاقاتها الإقليمية والدولية.
وأوضح أبو زيد أن سورية استفادت أولا من التحرر من القيود المالية والاقتصادية التي كبّلتها لسنوات، ما أتاح لها استعادة أجزاء من نشاطها الاقتصادي والاستثماري. أما الأردن، فبين أن الفوائد ستكون ملموسة، خصوصا مع إعادة تنشيط الطرق التجارية الحيوية مثل M4 وM5 الممتدين من جنوب سورية إلى شمالها وصولا إلى تركيا، ومنها للأسواق الأوروبية، لافتا إلى أن ذلك سينعش الحركة التجارية الأردنية، بخاصة في ظل تحسن المناخ الدبلوماسي بين البلدين.
وأكد أن سورية تمكنت في الفترة الأخيرة، من تحقيق تقدم ملحوظ على صعيد العلاقات الدبلوماسية الخارجية، واستعادة موقعها الإقليمي والدولي تدريجيا. مشيرا إلى أن إعادة بناء الدولة السورية، جاء أكثر انسجاما مع المزاج الغربي، وتصورات الإدارة الأميركية، ما أسهم بتخفيف القيود السياسية والاقتصادية المفروضة على دمشق، وعلى رأسها قانون قيصر.
وأضاف أبو زيد، أن الإلغاء منح دمشق مساحة أوسع من حرية الحركة الدبلوماسية، خصوصا في مجال الاستثمارات، ما فتح بابا جديدا أمام الدول الراغبة بالدخول للسوق السورية، مرجحا بأن الأردن سيكون من بين الدول المستفيدة من هذا الانفتاح، سواء عبر فرص الاستثمار أو بتنشيط التجارة.
وبين أن سورية تمكنت من استعادة قدر كبير من التوازن الإستراتيجي، وهو ما عنى إعادة ترتيب أوراقها وتموضعها في محيطها الخارجي بعد سنوات من العزلة. وفي الوقت ذاته، فإن البلاد خطت خطوات واضحة نحو استعادة الاتزان الإستراتيجي الداخلي، بإعادة بناء مؤسسات الدولة وتقليص الاختلالات التي راكمها النظام السابق، وتحسين مستوى السيطرة على الجغرافيا السورية.
وشدد على أن هذه التطورات مجتمعة جعلت سورية أقرب للصورة التي سعت إليها "خماسية عمّان"؛ دولة مستقرة، متماسكة، قادرة على الاندماج مجددا في محيطها العربي، بما يعيد رسم توازنات الإقليم على أسس مختلفة عمّا كانت عليه العقد الماضي.
إعادة هندسة اقتصادية
الخبير الأمني والإستراتيجي د. بشير الدعجة، قال إنه قرأ تصويت مجلس النواب الأميركي على إلغاء القانون، ضمن سياق التحضيرات السياسية لمرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد. موضحا أن واشنطن لم تتعامل مع الملف السوري كواقع جامد، بل كملف استعدت عبره لانتقال سياسي مقبل، لذلك فإن تخفيف العقوبات أو إلغاءها، لم يكن مكافأة للنظام الراحل، بل مثّل إعادة هندسة اقتصادية مقصودة لإعادة تشكيل الدولة السورية، بما انسجم مع ما سماه النظام السوري الجديد الذي توقعت واشنطن ظهوره نتيجة الترتيبات الداخلية والإقليمية والدولية.
ورأى الدعجة أن تصويت الكونغرس حمل اعترافا أميركيا، يفيد بأن استمرار سياسة الخنق الاقتصادي لم يعد يخدم المصالح الأمنية، بل عقد مسار الانتقال السياسي وفسح المجال أمام الفوضى للتمدد، لذلك اتجهت واشنطن لخلق بيئة اقتصادية قابلة للتعامل مع حكومة جديدة، توقعت الولايات المتحدة بأن تكون اكثر انضباطا وتعاونا، واقل ارتباطا بالمحور الإيراني، وأقدر على ضبط الأمن داخل الأراضي السورية وعلى الحدود.
واعتبر بأن هذا التحول التشريعي، حمل دلالات واضحة تمهد لتثبيت أقدام النظام الجديد عند تشكله لا للحفاظ على نظام سقط فعليا في الحسابات الإستراتيجية الأميركية.
وبشأن التحولات في مقاربة واشنطن للملف السوري، بخاصة في ظل الحديث عن دعم تعافي الاقتصاد السوري وتعزيز استقرار الحكومة الجديدة، بين الدعجة أن التحول الأميركي، تأسس على 3 قناعات إستراتيجية، الأولى؛ تمثلت بأن المرحلة المقبلة في سورية لن تكون امتدادا لعهد الأسد، وأي انتقال سياسي مهما كان شكله، يحتاج لاقتصاد قابل للحياة، كي لا يسقط النظام الجديد في فراغ وفوضى.
أما الثانية، فتمثلت بسعي واشنطن، لضمان أن تكون الحكومة السورية المقبلة، قادرة على التعامل مع الملفات الإقليمية الحساسة وعلى رأسها: الأمن الحدودي مع الكيان، وأن النظام الجديد وجب أن يكون منضبطا امنيا، قادرا على كبح الفوضى، مانعا لتمدد المليشيات، وقادرا على الالتزام بتفاهمات الحدود القائمة. بينما بين الدعجة أن القناعة الثالثة، تتمثل باقتناع الولايات المتحدة بأن إعادة إعمار الاقتصاد السوري ولو جزئيا قبل الانتقال السياسي، لم يعد تنازلا، بل استثمار في منع انهيار دولة قد تكون جزءا من منظومة أمن إقليمي جديدة بعد سقوط الأسد.
ونوه بأن واشنطن بحثت في هذه المرحلة عن استقرار حكومي مستقبلي، لا عن رضا عن حكومة راحلة، مشيرا إلى أن القبول الأميركي بالنظام الجديد، ارتبط بشروط شملت الابتعاد عن النفوذ الإيراني وضبط الحدود والالتزام بترتيبات أمن الاحتلال، وإدارة داخلية أقل فسادا وأكثر قابلية للحكم. موضحا بأن هذه الشروط شكلت قاعدة التحول في المقاربة الاقتصادية والسياسية الأميركية تجاه سورية.
وأى الدعجة بأن تخفيف قيصر أو إلغاءه في هذه اللحظة التاريخية، أعاد ترتيب المشهد الإقليمي برمته، لأنه تزامن مع انهيار بنية الحكم القديمة في سورية، وتبلور نظام جديد أرادته واشنطن أقل صدامية وأكثر قابلية للاندماج في معادلات الأمن الإقليمي خصوصا تجاه الكيان، موضحا بان سقوط الأسد فتح الباب أمام خريطة نفوذ جديدة، إذ وجدت إيران نفسها أمام تراجع حتمي في امتداداتها داخل سورية، بينما تعاملت روسيا مع النظام الجديد، كأداة لاستمرار النفوذ لا كحليف أيديولوجي، في حين اتجهت تركيا لإعادة صياغة علاقتها مع دمشق المستقبلية، وفق مقاربة أمنية حدودية أكثر هدوءا.
وأشار إلى أن الكيان برز بوصفها المستفيد الأكثر حساسية، إذ سعت لفرض ترتيبات أمنية مع النظام الجديد، تضمن منع التهريب العسكري وأي تمركز للمليشيات، وتعزيز قدرة سورية على ضبط الجنوب، مؤكدا أن الولايات المتحدة نظرت لهذه الترتيبات باعتبارها صمام أمان لأي نظام قادم، لذلك دعمت اقتصاديا وسياسيا أي سلطة سورية جديدة قادرة على الالتزام بهذه المعادلة.
وأضاف أن البعد العربي شهد عودة الدور العربي لدمشق من بوابة الاقتصاد وإعادة الإعمار، ما أسهم بتراجع النفوذ الخارجي غير العربي تدريجيا، وهذا أنتج توازنا إقليميا اكثر استقرارا واقرب لمنطق الدولة منه لمنطق الساحات المفتوحة. لافتا إلى أن الإلغاء وتعديل في سياسات العقوبات، ليس دعما أميركيا لمرحلة انتهت، بل تأسيس لمرحلة جديدة بعد سقوط الأسد، يسعى فيها الأميركيون لضمان استقرار النظام الجديد وانضباطه الأمني، وتوافقه مع المصالح الإقليمية، وأبرزها امن الكيان، وابتعاده عن محاور التصعيد، مؤكدا أن هذه التحولات إعادة تشكيل لمستقبل سورية وللتوازنات الإقليمية كلها.
إتاحة الفرصة لسورية والمنطقة بالتعافي
وأكد أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الألمانية الأردنية د. بدر الماضي، أن رفع آخر العقوبات عن سورية، ضاعف مساحات التفاؤل ليس فقط في سورية، ولكن في دول مجاورة ومعنية وراغبة بالتعاون لبناء سورية من جديد. مشيرا إلى أن هذه الخطوة الأميركية، أثبتت بأن هناك شبه إجماع من المؤسسات الأميركية على إتاحة الفرصة لسورية والمنطقة بالتعافي وإعادة بناء وتطوير الهياكل الاقتصادية والمالية والتجارية، والتي بلا شك انعكست على الاستقرار السياسي في سورية والمنطقة.
وأضاف الماضي، أن ذلك فتح الباب واسعا للتأسيس لمرحلة مهمة من التعاون، بحيث اصبح هذا التعاون رافعة أساسية لاكتساب مزيد من الثقة بين دول المنطقة. مبينا أنه تعاف سمح لسورية بتعزيز قدرات حكومتها بتوحيد البلاد، أو على الأقل نزع فتيل الأعذار المقدمة للانفصال، أو محاولات التشويش على استقرار سورية الجديدة. مؤكدا أن حالة توازن إقليمي ستتحقق في المرحلة المقبلة، ما سينعكس على مزيد من الإيجابية لتحقيق التنمية والتطور على المستويات كافة.