أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    11-Dec-2025

البرجوازية الجديدة واقتصاد السلوك… من التحكم بالرغبات إلى هندسة السوق*د. محمد عبد الحميد الرمامنة

 الراي 

الاقتصاد لم يعد مجرّد أرقام وأرصدة وتدفقات نقدية، بل أصبح علماً يقرأ ما يدور وراء الجفون، ويبحر في دهاليز النفس البشرية، ليعيد تشكيل ما نريده قبل أن نعي أننا نريده، لقد وُلدت طبقة جديدة من البرجوازية لا تشتري المصانع ولا تستثمر في الأرض، بل تمتلك مفاتيح الوصول إلى الوعي واللاوعي، وتحوّل الانتباه إلى رصيد ، والرغبات إلى مناجم ذهب لا تتوقف. إنها البرجوازية الرقمية التي تتغذى على كل نقرة نتردد قبل أن نضغطها، وعلى كل نظرةٍ عابرةٍ نحو شاشة قد دفنا فيها جزءًا من وعينا ووقتنا.
 
فالإنسان، كما تفسره دراسات الاقتصاد السلوكي، لا يتخذ قراراته بدافع العقل وحده؛ بل يسوقه الانحياز العاطفي، ويستسلم لإغراء اللحظة، ويتأثر لضغط الجماعة والخوف من فقدان ما يعتقد أنه فرصة، ومع هذا الإدراك، لم تعد المؤسسات الكبرى تلهث خلف رغبات الناس، بل صارت تصنع تلك الرغبات بهدوء . بحيث أصبح الإعلان لا يحدثك عن الحاجة، بل يقنعك بأنك ناقص من دونها يقول لك: اشترِ لتكتمل… اقتنِ لتُرى… تملك لتصبح شخصًا لا يُنسى في عالم يُتداول فيه البشر مثل سلعة رقمية.
 
وفي الوقت الذي حلم فيه ماركس بأن تتحرر الطبقات الكادحة من سيطرة وسائل الإنتاج، برز شكل جديد من السيطرة لا يُرى ولا يُلمس، لكنه يوجّه السلوك بدقة خوارزمية مخيفة . لم يعد الاستغلال معتمدًا على الجهد البدني، بل على القابلية للانبهار.
 
أصبح المستهلك هو العامل الجديد، يعمل دون أن يشعر، ويُنتج بيانات تُباع وتُشترى وتُعاد هندستها لتعيد تشكيل حياته وقراراته وتفضيلاته.
 
تطلّ عليك التطبيقات كأصدقاء يعرفون خفاياك، تقترح عليك ما تحب وتحلم به، وتحتفظ بخيارات قلبك الرقمية لتعرضها في المزاد خلف الستار. كل ما نقوم به على الشاشات يتحول إلى نمط سلوكي يُباع لأصحاب النفوذ الجدد، أولئك الذين تقدّم لهم الخوارزميات مفاتيح السيطرة الناعمة على العالم. فبينما كنّا نظن أننا نختار، اكتشفنا أننا نُقاد بمهارة نحو ما خُطّ لنا مسبقًا.
 
السوق لم يعد مكاناً للمنافسة الاقتصادية، بل ساحة صراع على الإدراك البشري؛ مَن يمتلك انتباهك يمتلك قرارك، ومن يوجه قرارك يستحوذ على جيبك ومستقبلك وآمالك الصغيرة. هكذا تُباع الأحلام بالتقسيط، وتُدار الهويّات الشخصية تحت شعار: "كن كما يريد السوق، لا كما تريد أنت".
 
ومع ذلك، لا يزال في داخل الإنسان بارقة ضوء تقاوم هذا الطوفان الصامت، الخلاص يكمن في الوعي؛ وعيٌ يبني حاجزًا بين حاجاتنا الأصيلة والاحتياجات المزيفة التي تُنسج بخيوط الخداع النفسي. ليس المطلوب أن نهجر التقنية، بل أن نكفّ عن الاذعان لها؛ أن نستعيد حقنا في أن نختار بحرية، أن نختار دون وصاية خفية.
 
إن الصراع اليوم ليس بين برجوازية وعمال، بل بين عقول مدركة وأخرى تُقاد من بعيد. وفي عالم تُصاغ فيه الرغبات داخل غرف تحكم غير مرئية، يصبح الوعي هو الثروة، والمستهلك الأذكى هو من يعرف متى يقول: هذا أنا… لا ما يريدونه لي أن أكون.