أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    17-Nov-2025

الذكاء الاصطناعي يحول الثغرة إلى آلة هجوم

 الغد-د. حمزة العكاليك

 مقال الأسبوع الماضي دقّ ناقوس الخطر حول السوق السوداء لبيع ثغرات أنظمة الأمن السيبراني وكيف تشكل هذه التجارة غير الشرعية نقطة انطلاق لأسوأ الهجمات، إلا أن المشهد اليوم قد أصبح أكثر قتامة وخطورة. فلم نعد نتحدث عن مجرد ثغرات تكتشف وتباع، بل عن أدوات قادرة على ابتكار الثغرات وتوظيفها بشكل آلي وممنهج. فالذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI) لم يعد مجرد محرك للنمو الاقتصادي، بل تحول إلى أخطر أداة في ترسانة الجريمة المنظمة العابرة للحدود. 
 
فمنذ اللحظة التي أطلق فيها ChatGPT في أواخر العام 2022، تحررت قدرات هائلة سمحت للعصابات الإجرامية بإعادة تشكيل بنيتها بالكامل، مستغلة سرعة الذكاء الاصطناعي الفائقة لتنفيذ هجمات معقدة على نطاق لم يكن ممكناً تصوره من قبل. فإجراءات الأمان التقليدية لم تعد كافية، فالتقارير الصادرة مؤخرا تؤكد أننا أمام تحول جذري؛ فالجريمة لم تعد تقاس بالجهد البشري، بل بقوة الخوارزميات.
لقد أزال الذكاء الاصطناعي حاجز الخبرة التقنية، وهو ما يشكل نقطة تحول جوهرية. فتنفيذ هجمات متقدمة كان يتطلب في السابق مبرمجين خبراء وعملاً جماعياً معقداً، أما اليوم، فيمكن لذوي المهارات المحدودة أن يصبحوا مجرمين رقميين بالوكالة. فالسوق السوداء اليوم تزخر بأدوات قائمة على الذكاء الاصطناعي قادرة على أتمتة الهجمات الإلكترونية، حيث تستطيع الخوارزميات تعديل شيفرات البرمجيات الخبيثة في الوقت الحقيقي استجابةً لردود أنظمة الدفاع السيبراني، مما يجعل التصدي لها أشبه بمحاولة إصابة هدف متحرك بسرعة تفوق سرعة الاستجابة البشرية. هذا التطور يعزز من قدرة العصابات على استغلال الثغرات ليس يدوياً، بل بآلاف العمليات المتزامنة في الثانية الواحدة.
ولعل أخطر مثال على ذلك هو ظاهرة التضليل العميق (Deepfakes). فلم تعد محاكاة الأصوات والصور مجرد خدعة بسيطة، بل أصبحت محاكاة مقنعة للواقع تستخدم في اختراق الأنظمة المصرفية والمالية عبر انتحال هوية المدير التنفيذي (CEO Fraud) عبر مكالمات صوتية مزيفة تطلب تحويل مبالغ ضخمة، أو توسيع نطاق حملات الابتزاز الإلكتروني وتوجيهها بدقة غير مسبوقة، حيث يتم استهداف الضحية بناء على تحليل عميق لملفها الشخصي وسلوكها الرقمي. وبحسب بيانات موثوقة، تضاعفت الخسائر الناتجة عن عمليات الاحتيال العميق بأكثر من 400 % خلال العام الماضي فقط، مما يؤكد أن الذكاء الاصطناعي لا يضاعف سرعة الجريمة فحسب، بل يرفع مستوى تدميرها. فهذا التطور يبرز أن الاستثمار في حوكمة البيانات والتحول الرقمي يجب أن يركز على بناء جدران ثقة رقمية مقاومة للذكاء الاصطناعي المزيف.
إن التحدي الذي يواجه الحكومات وسلطات إنفاذ القانون اليوم هو أن آليات الرد التقليدية أصبحت متقادمة أمام هذه الجريمة المعززة بالخوارزميات. فبينما تتطور أدوات الجريمة بـالثواني، تتحرك التشريعات بـالسنوات. ولمعالجة هذه الفجوة، أصبح تحديث التشريعات وحوكمة الإجراءات ضرورة ملحة وليس خياراً.
فأولاً، لا بد من تطوير أطر قانونية وطنية وتشريعات إقليمية ودولية متخصصة؛ فلا يكفي تكييف القوانين الحالية. فنحن بحاجة إلى تشريعات جديدة تُعرّف وتُجرّم الأفعال المرتكبة باستخدام الذكاء الاصطناعي، خاصة تلك المتعلقة بإنشاء وتوزيع الـDeepfakes الإجرامي. ويجب على الحكومات تبني قانون إقليمي وتوافقات دولية نموذجية للذكاء الاصطناعي والجريمة، ليكون إطاراً مرجعياً يضمن التوازن والسرعة في تقنين هذا المجال عبر الحدود، وهذا يضمن ألا تكون أي دولة نقطة ضعف تستغلها العصابات العابرة للأوطان.
ثانياً، تعزيز القدرات التقنية والتحقيقية بحيث يمكن ملاحقة الذكاء الاصطناعي بالذكاء الاصطناعي. ويجب على الأجهزة الأمنية والقضائية الاستثمار في أدوات تحليل البيانات المتقدمة القائمة على الذكاء الاصطناعي للكشف عن الأنماط الإجرامية الجديدة والتنبؤ بالهجمات المستقبلية. فالتحول الرقمي في المؤسسات الأمنية لم يعد رفاهية، بل هو خط الدفاع الأخير الذي يجب أن يعمل بذكاء مضاد.
ثالثاً، لا بد من بناء الشراكات المستدامة وتتبع سلاسل التوريد، وذلك من خلال توسيع الشراكات بين سلطات إنفاذ القانون (القطاع العام) ومطوري تقنيات الذكاء الاصطناعي وشركات التقنية الكبرى (القطاع الخاص). وهذه الشراكة ضرورية لتتبع المحتوى الإجرامي العميق ومنع تداوله عند المصدر.  إن التعاون لتتبع سلاسل توريد الجريمة الرقمية، من البنية التحتية للخوادم إلى آليات الدفع المشفرة، هو الطريق الوحيد لضرب جذور هذه العصابات الجديدة التي تستفيد من سرعة ونطاق الذكاء الاصطناعي.
لقد أصبح الذكاء الاصطناعي جزءاً لا يتجزأ من ترسانة الجريمة المنظمة، ولن يختفي هذا التهديد، بل سيتنامى مع كل نموذج ذكاء اصطناعي جديد يتم إطلاقه. فالتعامل مع هذه الظاهرة بمنظور وطني ضيق هو انتحار سيبراني. فالأمر يتطلب تعاوناً دولياً حقيقياً وتطويراً مستمراً للقنوات الفعالة لتبادل المعلومات بين الدول، بالإضافة إلى إنشاء فرق وطنية متخصصة تضم خبراء من القضاء والنيابة والتقنية. فالخمول اليوم يعني فقدان السيطرة غداً، وفقدان السيطرة يعني خسارة أمننا المالي والاقتصادي والمجتمعي. فهل نحن مستعدون لدفع هذا الثمن، أم سنتحرك الآن لفرض الحوكمة الذكية التي تحمي مكتسباتنا الرقمية؟