البيانات نفط العصر.. ثروة العرب القادمة*د. محمد الطماوي
الراي
لم يعد النفط التقليدي هو الثروة الأهم في هذا العصر، فقد أصبحت البيانات هي "نفط القرن الحادي والعشرين"، وأداة القوة الناعمة والصلبة في آن واحد، فمن يمتلك البيانات المنظمة والدقيقة يمتلك القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وصياغة السياسات، وتوجيه القرارات الكبرى في الاقتصاد والسياسة والتنمية، البيانات ليست مجرد أرقام، بل هي لغة التخطيط، ومرآة تعكس واقع المجتمعات، وقاعدة صلبة تنطلق منها الدول لبناء سياساتها واستراتيجياتها.
ورغم إدراك الدول العربية لأهمية الإحصاءات ووجود أجهزة وطنية متخصصة في جمع البيانات، فإن الواقع العربي ما زال يعاني من تشتت خطير، إذ تعمل كل دولة وفق معاييرها الخاصة، وتصدر بياناتها بمعزل عن الآخرين، ما يؤدي إلى فجوة واضحة أمام الباحثين وصناع القرار، هذا التشتت يخلق تناقضاً في المؤشرات ويضعف القدرة على المقارنة الدقيقة بين الدول العربية، ويؤدي إلى تأخر تحديث البيانات في كثير من المجالات، فضلا عن صعوبة الوصول إليها من قبل الباحثين والجامعات ومراكز الدراسات، وهو ما يضعف جودة البحث العلمي ويجعل السياسات العامة في المنطقة أقل قدرة على التنبؤ والاستجابة للتحديات.
إن الحاجة تفرض اليوم مشروعاً عربياً موحدا للإحصاءات، يقوم على بناء منصة بيانات إقليمية شاملة تحت مظلة جامعة الدول العربية أو هيئة عربية متخصصة، بحيث تلتزم الدول جميعها بتوحيد معاييرها وفق النظم الدولية المتعارف عليها، وتعمل على تغذية بنك بيانات مركزي يتيح معلومات اقتصادية واجتماعية وبيئية حديثة بصورة دورية ومنتظمة، هذا المشروع يجب أن يعتمد على التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، وأن يضمن الإتاحة المفتوحة للباحثين والمراكز البحثية بما يدعم تطور البحث العلمي ويعزز مكانته عربياً ودولياً.
إن توحيد الإحصاءات العربية ليس مطلبا أكاديمياً فحسب، بل هو ضرورة استراتيجية لخدمة التنمية والتكامل الاقتصادي العربي، وصناعة موقف عربي موحد على الساحة الدولية، وتحقيق السيادة المعرفية بعيداً عن الاعتماد على قواعد بيانات أجنبية قد تستخدم كورقة ضغط أو أداة لتوجيه السياسات، فالبيانات الموحدة ستساعد في تحسين جودة الأبحاث العلمية، وتعزيز فرص التكامل الاقتصادي، وتمكين صناع القرار من رسم سياسات قائمة على أدلة دقيقة بدلاً من الانطباعات.
من يتأمل تجارب القوى الكبرى يدرك أن الصراع في القرن الحادي والعشرين يقوم على السيطرة على المعرفة والبيانات، الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي يتسابقون لبناء مراكز متخصصة في تحليل البيانات الضخمة وتوظيفها في الذكاء الاصطناعي والاقتصاد والأمن، إدراكاً منهم أن من يمتلك البيانات يمتلك القدرة على التحكم في الأسواق والموارد وحتى توجهات الشعوب، وإذا لم يسارع العرب إلى بناء منظومتهم الإحصائية الموحدة، فإنهم سيبقون مستهلكين للمعرفة، بينما تتشكل قراراتهم وفق ما تنتجه وتبثه مراكز البيانات العالمية.
في كثير من الأحيان تمثل أسعار الحصول على البيانات عقبة حقيقية أمام الباحثين العرب، إذ إن بعض المنظمات الإقليمية تفرض رسوماً مرتفعة على إتاحة قواعد البيانات أو بيعها في صورة تقارير سنوية أو أقراص مدمجة، وهو ما يجعل الوصول إليها مقصوراً على المؤسسات الكبرى القادرة على الدفع، بينما يحرم منها طلاب الدراسات العليا والباحثون المستقلون، وتتحول البيانات التي يفترض أن تكون خدمة عامة وأداة لتنمية المجتمع إلى سلعة تجارية تفقد قيمتها العلمية كلما تأخر إصدارها أو تم احتكارها، إن هذه السياسة لا تخدم البحث العلمي ولا صانع القرار، بل تضعف جودة المعرفة المنتجة عربياً وتزيد الفجوة مع الدول المتقدمة التي تتيح بياناتها بشكل مفتوح ومجاني عبر منصات إلكترونية حديثة.
إنها دعوة مفتوحة لكل الحكومات العربية، والجامعات، والمراكز البحثية، وأجهزة الإحصاء الوطنية، لتدرك أن البيانات ليست ترفاً إدارياً ولا شأناً ثانوياً، بل هي أساس وجودي لأمن الأمة وتقدمها، فكما كان النفط يوماً ما هو المحرك الأول للتنمية، أصبحت البيانات اليوم هي الوقود الحقيقي للنهضة، وإذا لم تتوحد الجهود الإحصائية العربية، سنظل خارج دائرة المنافسة في عالم لا يرحم، تحكمه لغة الأرقام والمعرفة الدقيقة.