الدستور
يعكس الرقم القياسي لأسعار المنتجين الصناعيين والزراعيين، تكلفة الإنتاج في القطاعين قبل وصول منتجاتهما إلى المستهلك النهائي، ما يجعل منهما مؤشرًا مهمًا لرصد وجهة التضخم الاستهلاكي، فأي زيادة في أسعار المنتجين، من المرجح أن تُمرَّر إلى المستهلك في السوق، مما يؤثر على معدل التضخم، في حين أن أي استقرار أو انخفاض فيها - وإن كان لا يعني بالضرورة تراجع الأسعار - يوجد استقرارًا في هذا المعدل.
في هذا السياق تكشف بيانات الرقم القياسي لأسعار المنتجين الصناعيين ولأسعار المنتجين الزراعيين كما هي في النصف الأول من 2025، عن تمايز في أداء قطاعي الإنتاج الصناعي والزراعي، وعن تباين هيكلي في مصادر الضغط التضخمي، وتوجهات الأسعار في السوق المحلي.
فمن جهة، سجَّل الرقم القياسي لأسعار المنتجين الصناعيين انخفاضًا للنصف الأول من 2025 بنحو %0.44 مقارنة بالفترة ذاتها من 2024، وهو انخفاض وإن كان طفيفًا إلا أنه يعكس استقرارًا نسبيًا في تكاليف الإنتاج الصناعي. وفي المقابل، اتخذت أسعار المنتجين الزراعيين مسارًا مغايرًا؛ إذ ارتفع رقمها القياسي 10 %، في إشارة إلى ارتفاع الضغوط السعرية.
تباين النسب هذا، يسلط الضوء على اختلاف ديناميكيات أداء القطاعين، فالقطاع الصناعي أظهر نوعًا من الانضباط السعري والتنافسية رغم التوترات الجيوسياسية، ما يشير إلى قدرة سلاسل التوريد الصناعي على الصمود في الأجل القصير، أو يشير إلى محاولات لخفض الأسعار لمواجهة المنتجات المنافسة في السوقين المحلي والدولي، أو يشير إلى ضعف في الطلب الصناعي وإن كان مستبعدًا؛ بالنظر إلى نمو الصادرات الوطنية وجلّها من القطاع الصناعي بنحو 9.2 % خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025.
فيما أظهر القطاع الزراعي تقلبات ناتجة عن عروض غير مستقرة تدفع الأسعار صعودًا في فترات معينة، وتزيد الضغط على المستهلك المحلي، ما يعبر عن كفاءة أقل في سلاسل التوريد الزراعية، وضعفًا في قدرات التخزين والتسويق المحلي، وتأثيرًا للتغيرات المناخية، مما يضغط مباشرة على ميزانية المستهلك النهائي نظرًا لارتباط السلع الزراعية بسلة الغذاء اليومية - نحو 33 % من إنفاق الأسرة السنوي يذهب للطعام والشراب - مما يرفع من الضغوط التضخمية العامة، ويزيد من صعوبة التوازن الاقتصادي للأسر.
أيضًا، تُظهر بيانات الرقم القياسي الزراعي والصناعي صورة مزدوجة للواقع الإنتاجي، فهناك قطاع صناعي يحاول التكيف مع المتغيرات التي تخصه، وقطاع زراعي يعاني من المتغيرات التي يتأثر بها، ما يؤكد الحاجة لتطوير سياسات تراعي خصوصية كل قطاع، فلا يمكن معالجة أسباب ارتفاع الأسعار الزراعية بنفس السياسات التي تؤدي إلى استقرار الأسعار الصناعية.
هنا، فالرقم القياسي لأسعار المنتجين الزراعيين لا يقتصر على كونه مؤشرًا اقتصاديًا فحسب، بل له بُعد اجتماعي مباشر، يؤثر على الأمن الغذائي والقوة الشرائية والاستقرار الاجتماعي. لذلك يعد مؤشرًا اجتماعيًا بامتياز، لأنه يمس حياة الناس اليومية وسلة استهلاكهم الأساسية.
فيما الرقم القياسي لأسعار المنتجين الصناعيين أكثر ارتباطًا بالجانب الاقتصادي الكلي، ويعد مؤشرًا اقتصاديًا يعكس كفاءة الاقتصاد وتنافسيته من خلال رصد تكاليف الإنتاج في الصناعات التحويلية والأنشطة ذات القيمة المضافة العالية، وبذلك له تأثيره على التنافسية الخارجية وميزان المدفوعات والناتج المحلي الإجمالي والسياسات الصناعية؛ أكثر من تأثيره المباشر على إنفاق المستهلك العادي.
أسعار المنتجين الصناعيين والزراعيين ليست مجرد أرقام عن تكاليف الإنتاج، بل هما يُكملان بعضهما البعض لكن زاوية تأثيرهما تختلف: الأول على الأفراد والمجتمع، والثاني على الاقتصاد والاستثمار. وهما معًا مفتاح لفهم ديناميكيات الاقتصاد الوطني الاجتماعي بربطهما - كل على طريقته - بين التضخم والنمو والسياسة النقدية والتجارة الخارجية والأجور، وحتى الاستقرار الاجتماعي.
أي قراءة اقتصادية متكاملة يجب أن تبدأ من تحليل اتجاهات أسعار المنتجين ومقارنتها بالمؤشرات الأخرى.