أثر التخفيضات المحتملة لأسعار الفائدة الأمريكية على الاقتصادات المرتبطة بالدولار*د.حمد الكساسبة
الراي
تُعدّ قرارات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي المتعلقة بأسعار الفائدة من أكثر الأدوات تأثيراً في النظام المالي العالمي، إذ تنعكس تداعياتها على السيولة، وتكاليف الاقتراض، وخدمة الديون، إضافة إلى حركة رؤوس الأموال وأسعار الصرف. وتزداد حساسية هذه القرارات بالنسبة للاقتصادات النامية المرتبطة عملاتها بالدولار الأمريكي، حيث يظهر الأثر بصورة مباشرة وأكثر عمقاً نتيجة هشاشة بنيتها الاقتصادية والمالية.
شهدت السنوات الأخيرة موجة قوية من التشديد النقدي في الولايات المتحدة، حيث رفع الفيدرالي أسعار الفائدة بشكل متتال لمواجهة مستويات التضخم المرتفعة. إلا أن مؤشرات عديدة صادرة عن بنوك استثمارية ومؤسسات مالية كبرى باتت ترجّح أن الفترة المقبلة ستشهد سلسلة من التخفيضات، خاصة بعد تصريحات رئيس الفيدرالي الأخيرة التي ألمح فيها إلى هذا الاتجاه. ويأتي ذلك في إطار مساعٍ لتحفيز النمو وتجنب الدخول في ركود اقتصادي عميق. وهنا يبرز التساؤل: كيف ستنعكس هذه التخفيضات على الاقتصادات النامية المرتبطة بالدولار؟ وما الاستراتيجيات الأنسب للتعامل مع هذا التحول؟
على الصعيد المالي، تمثل التخفيضات فرصة مهمة للتخفيف من عبء خدمة الديون الخارجية المقومة بالدولار، إذ ستنخفض الفوائد المستحقة على الديون قصيرة ومتوسطة الأجل ذات الفائدة المتغيرة، ما يتيح للحكومات إعادة توجيه جزء من مواردها نحو الإنفاق التنموي أو الاستثماري. غير أن الأثر يظل محدوداً على الديون طويلة الأجل ذات الفائدة الثابتة، والتي تبقى بعيدة نسبياً عن تأثير التخفيضات الحالية.
لكن الفوائد المتوقعة لا تلغي التحديات المصاحبة. فالزيادة في السيولة الناتجة عن خفض الفائدة قد تؤدي إلى ضغوط تضخمية، خصوصاً في الاقتصادات النامية التي تفتقر إلى أدوات رقابية فعّالة على الأسعار. كما أن تراجع العائد على الأصول الدولارية قد يدفع بعض المستثمرين إلى إعادة توجيه رؤوس أموالهم نحو أسواق أكثر جاذبية، وهو ما يضعف الاستقرار المالي ويزيد من تقلبات أسعار الصرف.
من جانب آخر، يشكّل البعد التجاري عاملاً أساسياً في هذه المعادلة. فقد شهد العام الحالي ارتفاعاً واسعاً وشاملاً في الرسوم الجمركية الأمريكية على العديد من السلع، ما أضعف تنافسية صادرات الدول النامية، خاصة تلك التي تعتمد على السوق الأمريكية في قطاعات صناعية رئيسية. وبالتالي فإن المكاسب المالية الناتجة عن انخفاض كلفة الاقتراض قد تتراجع أمام استمرار السياسات الحمائية الأمريكية التي تحد من فرص هذه الدول التصديرية.
كذلك فإن تراجع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة يؤدي عادةً إلى انخفاض قيمة الدولار أمام العملات الأخرى. وبينما يسهم ذلك في تعزيز صادرات الدول المرتبطة بالدولار نحو أسواق خارجية غير مقومة به، إلا أنه يرفع في المقابل كلفة الواردات، ما يفاقم الضغوط التضخمية. وهذا يفرض على صناع القرار تحقيق توازن دقيق بين الاستفادة من تخفيف أعباء الدين ومواجهة ارتفاع أسعار المستوردات.
كما أن الاستثمار الأجنبي يُعد من الجوانب الحساسة التي تتأثر مباشرة بتغير أسعار الفائدة الأمريكية. فالتخفيضات عادة ما تزيد من جاذبية أسواق الدول النامية أمام رؤوس الأموال الباحثة عن فرص ذات عائد أعلى، خاصة إذا ترافقت مع بيئة أعمال مستقرة وإصلاحات تشريعية محفزة. إلا أن هذه التدفقات قد تكون قصيرة الأجل وعُرضة للتقلبات، مما يفرض ضرورة تعزيز الاستثمارات الأجنبية المباشرة المرتبطة بقطاعات إنتاجية طويلة الأمد، كالصناعة والطاقة المتجددة والخدمات التكنولوجية، لضمان تحقيق أثر مستدام على النمو الاقتصادي. وهنا يبرز دور السياسات الاقتصادية في إيجاد توازن بين جذب رؤوس الأموال وحماية الاستقرار المالي على المدى الطويل.
لمواجهة هذه التحديات وتعظيم الاستفادة، من الضروري أن تعتمد الدول النامية مقاربات متكاملة تقوم على ثلاث ركائز: أولاً، إعادة هيكلة الديون أو تسريع وتيرة سداد مرتفعة الكلفة منها. ثانياً، توجيه الوفورات نحو استثمارات إنتاجية قادرة على خلق فرص عمل وتحقيق نمو مستدام. ثالثاً، تنويع الأسواق التصديرية لتقليل الاعتماد المفرط على سوق واحدة وتخفيف المخاطر الناتجة عن التحولات المفاجئة في السياسات التجارية.
أما بالنسبة للأردن، فإن البنك المركزي يمتلك خبرة راسخة في التعامل مع مثل هذه التغيرات في أسعار الفائدة الأمريكية، وقد أثبت قدرته على اتخاذ قرارات متوازنة تحافظ على استقرار الدينار والقطاع المالي مع دعم النمو الاقتصادي. ومن خلال التنسيق بين السياسات النقدية والمالية، يمكن للأردن أن يحوّل التخفيضات الأمريكية إلى فرصة لتعزيز النمو وتحقيق استقرار اقتصادي أوسع، مع ضمان السيطرة على التضخم والحفاظ على ثقة المستثمرين.