الغد
على مدى سنوات، صيغت التشريعات المتعلقة بالاستثمار من منظور الإدارة الحكومية أكثر من منظور المستثمر، لتبقى فجوة الثقة قائمة بين رأس المال الباحث عن بيئة مستقرة وآمنة وبين منظومة إجرائية معقدة تستنزف الوقت والجهد وتؤخر حركة النمو، وعليه فإن أزمة الاستثمار في الأردن ليست في غياب القوانين "المطلوب تحديثها بسرعة" ولا نقص النصوص الواجب مراجعتها، بل غياب الوضوح في إدارة بيئة الأعمال.
المستثمر لا يبحث أولًا عن الحوافز، بل عن يقين قانوني يضمن استقرار القواعد ووضوح الإجراءات، ففي الأسواق الناجحة، القانون عقد واضح يحمي الطرفين ويمنح استقرارًا طويل الأمد، بينما في الأردن ما زالت الرسائل متناقضة؛ فهناك حوافز تعلن في المؤتمرات يقابلها بطء في التنفيذ أو تغييرات مفاجئة في القوانين على أرض الواقع، هذا التذبذب يضعف ثقة المستثمر، ويجعله أكثر حذرًا في توسيع استثماراته أو استقطاب شركاء جدد.
أراضي الخزينة مثال بارز على الحاجة إلى رؤية إستراتيجية واضحة، فبدل أن تكون أداة لجذب استثمارات نوعية في المحافظات الأقل حظًا، بقيت إدارتها خاضعة لاجتهادات متباينة، وهو ما يضعف فرص استغلالها لتحقيق نمو متوازن خارج العاصمة، والأمر نفسه ينطبق على البنية التحتية للطاقة والمياه والبيانات، التي لم تعد مجرد خدمات مساندة بل شروطًا أساسية لأي بيئة استثمارية حديثة، تتيح التنبؤ بالمسارات وتقلل من المخاطر.
وسط هذه التحديات، أطلقت الحكومة الخطة التنفيذية لبرنامج التحديث الاقتصادي (2023–2025) في مسعى لترجمة الرؤية إلى خطوات عملية قابلة للقياس، والخطة المحدثة التي أقرها مجلس الوزراء مطلع 2025 تضم 183 مبادرة تمول بنحو 2.3 مليار دينار، منها 171 مليونًا مخصصة للاستثمار، إلى جانب منصة إلكترونية تهدف إلى تسريع الإجراءات وتسهيل الوصول إلى المعلومات، وبلا شك أن هذه الخطوة تمثل انتقالًا تدريجيًا نحو وضوح أكبر واستقرار أفضل، مع أهداف واضحة للنمو والتشغيل وتوسيع قاعدة الصادرات.
غير أن نجاح الخطة لن يُقاس بحجم الأرقام أو عدد المبادرات، بل بقدرتها على الإقناع بالتنفيذ الفعلي، وإظهار التزام الدولة بتبسيط الإجراءات وتثبيت القوانين، فالمستثمر بطبيعته يقيس الجدية من تجربته اليومية: سرعة الترخيص، وشفافية التعامل، واستقرار القواعد، لا من النصوص المكتوبة وحدها.
الأردن يمتلك فرصة حقيقية ليصبح بيئة استثمارية تنافس في المنطقة، لكن ذلك يتطلب تحولا عميقا في طريقة إدارة الملف الاستثماري، من عقلية الاستثناءات إلى عقلية الحقوق الواضحة والمستقرة، وإذا ما استطاعت الحكومة- وعندي قناعة أنها تسعى لتحقيق الاستطاعة- تحويل هذه الخطط إلى واقع ملموس يشعر به المستثمر على الأرض، فسيكون ذلك بداية قصة نجاح جديدة تبنى عليها الآمال في جذب استثمارات نوعية تدفع عجلة النمو وتنعكس آثارها الإيجابية على الاقتصاد الوطني.