"الضمان" و"الدراسة الإكتوارية".. ما خيارات التقاعد المبكر؟
الغد-هبة العيساوي
تواجه المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي، مرحلة مفصلية، تتطلب قرارات حاسمة لضمان استدامتها المالية وتعزيز قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المستقبلية، في ظل تزايد الضغوط الناتجة عن توسعها في التقاعد المبكر وارتفاع النفقات التأمينية.
وتشير المعطيات، إلى أن المؤسسة تقف أمام خيارات محدودة، تراوح بين ضبط النفقات وتعظيم الإيرادات، عبر توسيع قاعدة المشتركين ودمج العاملين غير المشمولين حاليًا بالنظام، مقابل ضرورة ترشيد الإنفاق دون المساس بالحمايات الاجتماعية.
وفي الوقت ذاته، يترقب الشارع نتائج الدراسة الاكتوارية الجديدة التي ستكشف الأثر المالي الحقيقي للتقاعد المبكر على صندوق الضمان، وتحدد الاتجاهات المقبلة بشأن تعديل شروط الاستحقاق، في محاولة للتوازن بين حماية أموال الصندوق واستمرار دوره كركيزة رئيسة للأمن الاجتماعي والاقتصادي في البلاد.
يأتي ذلك في وقت يتوقع فيه بأن تعلن المؤسسة نتائج الدراسة الاكتوارية الجديدة، التي لم تصدر بعد، لقياس الأثر المالي الحقيقي للتقاعد المبكر على صندوق الضمان، وتحديد أفضل السبل للتعامل مع هذا الملف الحساس، وفق مصدر مطلع.
وقال المصدر الذي طلب عدم ذكر اسمه، أنه بناء على نتائج الدراسة، ستعدل المؤسسة شروط التقاعد المبكر.
وأشار مصدر في "الضمان"، لـ"الغد"، إلى أن المؤسسة ستعلن قريبا نتائج الدراسة الاكتوارية في مؤتمر صحفي يعقده مدير عام "الضمان".
خبير التأمينات والحماية الاجتماعية موسى الصبيحي، قال إن "الأرقام الأخيرة تكشف مفارقة كبيرة بين متقاعدي الشيخوخة والمتقاعدين مبكرًا"، موضحًا بأن من خرجوا لتقاعد الشيخوخة العام الماضي، بلغ عددهم 8107 مؤمن عليهم، أي بنسبة 24.7 % من إجمالي المتقاعدين الجدد، في حين بلغ عدد من تقاعدوا مبكرًا 22,500 مؤمّن عليه، بنسبة 68.5 % من مجموع المتقاعدين الجدد في العام نفسه.
وأضاف الصبيحي، أن الصورة التراكمية أكثر وضوحًا، إذ يشكل متقاعدو الشيخوخة 30 % فقط من إجمالي متقاعدي الضمان، مقابل 53 % لمتقاعدي المبكر، معتبرًا بأن هذا الخلل في التركيبة التقاعدية لا يمكن استمراره من دون أن ينعكس سلبًا على استقرار النظام التأميني.
وأكد أن "فاتورة رواتب التقاعد المبكر، تستحوذ حاليا على 62 % من إجمالي فاتورة التقاعد والاعتلال، بينما بلغت نسبة متقاعدي المبكر 54 % من إجمالي المتقاعدين التراكميين، وهي نسبة آخذة بالارتفاع المستمر".
وأضاف الصبيحي، أن ما يزيد الوضع سوءًا، هو استمرار الحكومة بإحالة آلاف الموظفين إلى التقاعد المبكر القسري في القطاع العام، برغم علمها بتأثير ذلك على المركز المالي للمؤسسة، مؤكدًا أن هذا السلوك يشكّل إضرارًا مباشرًا وخطرا على ديمومة النظام التأميني.
وأشار إلى أن نفقات الضمان التأمينية تجاوزت الـ85 % من إيراداتها لأول مرة منذ تأسيس المؤسسة قبل 45 عامًا، محذرًا من أن نقطة الخطر الأولى– أي تساوي النفقات مع الإيرادات– قد تقع في عام 2031 إذا استمر الوضع على ما هو عليه.
وأضاف، أن موجودات الضمان حاليًا تقل عن عشرة أضعاف نفقاتها المقدرة في السنوات العشر المقبلة، داعيًا الحكومة لتحمّل مسؤولياتها، واتخاذ إجراءات تصحيحية عاجلة، حتى لا تضطر خلال أقل من عام إلى فرض تعديلات قاسية على قانون الضمان، قد تُشعل موجة غضب اجتماعي واسعة.
التحول إلى ظاهرة مقلقة
من جانبه، قال مدير مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية أحمد عوض، إن "التقاعد المبكر في الأردن، لم يعد استثناءً كما يفترض بأن يكون، بل تحوّل إلى ظاهرة مقلقة تعكس اختلالات عميقة في نظام الضمان"، موضحا بأن هذا التحول يهدد الاستدامة المالية للمؤسسة، ويقوّض فلسفة الحماية الاجتماعية التي أُنشئ الضمان لتحقيقها.
وأضاف عوض، أن ارتفاع نسبة متقاعدي المبكر لتتجاوز نصف عدد المتقاعدين الإجماليين، مؤشر خطر، يخل بالسياسات التقاعدية، مشيرًا إلى أن صرف رواتب تقاعدية لسنوات طويلة، يؤدي لاستنزاف موجودات الصندوق على المدى البعيد، في وقت يتقاضى فيه أغلب هؤلاء المتقاعدون، رواتب متدنية لا تواكب ارتفاع كلفة المعيشة، ما يزجّ بالكثيرين في دوامة الفقر بعد التقاعد.
وبين أن من النتائج غير المباشرة لهذه الظاهرة، تكمن في أن كثيرًا من المتقاعدين يعودون لاحقًا إلى سوق العمل بحثًا عن دخل بديل، ما يؤدي لضغط إضافي على فرص التشغيل، ويفاقم معدلات البطالة بين الشباب، وهذا يتناقض مع أهداف الحماية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية.
ووصف عوض التقاعد المبكر القسري بأنه "مشكلة داخل المشكلة"، موضحًا بأن إحالة الموظفين قسرًا إلى التقاعد المبكر، سواء في القطاع العام أو الخاص، تُعد ممارسة غير عادلة، تضرّ بحقوق العاملين، وتُضعف الثقة بمنظومة الضمان، لأن القرار يُفرض على الموظف دون إرادته. مؤكدا أن على الحكومة والجهات المشغّلة، وقف الإحالات القسرية فورًا، ومراجعة الأسباب التي أدّت لتوسّعها، لأن استمرارها يُهدد استدامة النظام التأميني، ويُعمّق هشاشة سوق العمل. وبين أن التقاعد المبكر، يجب أن يبقى خيارًا طوعيًا يحكمه منطق الحماية لا الإقصاء، داعيًا لحوكمة شفافة لإدارة أموال الضمان، ومراجعة السياسات التي تُضعف العدالة التأمينية، وتُنتج أجيالًا برواتب تقاعدية منخفضة.
إجراءات ذات مردود مالي سريع
الناشط في مجال حقوق العمال حاتم قطيش، حذر من أن السبب الرئيس لتفاقم كلفة التقاعد المبكر تعود إلى السياسات الحكومية المتعلقة بإنهاء خدمات موظفي القطاع العام، داعيًا إلى اتخاذ قرار حكومي عاجل وحاسم لوقف هذه الإنهاءات التي تُسرّع في بلوغ نقطة التعادل الخطرة داخل صندوق الضمان الاجتماعي.
وقال قطيش إن العديد من مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها مؤسسة الضمان، أصبحت تميل لاتخاذ إجراءات ذات مردود مالي سريع، بتقليص النفقات، وغالبًا ما يكون ذلك على حساب منظومة الحماية الاجتماعية، في ظل غياب خطط استراتيجية حقيقية، لزيادة الإيرادات وتوسيع مظلة الشمول التأميني.
وأضاف إنه "من المعروف بأن إبعاد نقطة التعادل بين النفقات والإيرادات، يمكن تحقيقه بطريقتين: إما بخفض النفقات أو زيادة الواردات. وإذا كنا جادين فعلًا بإصلاح السياسات المالية للضمان، فيجب أن ترشد النفقات دون المساس بحقوق المؤمن عليهم، والتركيز على تعزيز الإيرادات بإدماج مزيد من العاملين غير المشمولين حاليًا بالنظام".
وأكد أن الاعتماد المستمر على أدوات التقشف وتقليص الحمايات الاجتماعية، سيضعف النظام التأميني على المدى الطويل، مشددًا على أن الحلول الحقيقية، تكمن بتعظيم الاشتراكات وتوسيع التغطية، بعيدا عن التضييق على حقوق العاملين والمؤمَّن عليهم.