لمواجهة تحديات الأمن الغذائي.. لماذا لا يتم الاستثمار في البحث الزراعي؟
الغد-عبد الله الربيحات
لم يعد الاستثمار في البحث العلمي الزراعي خيارا ثانويا، بل ضرورة وطنية لمواجهة تحديات الأمن الغذائي والمياه والطاقة، ويمتلك الأردن قاعدة علمية ومؤسسات بحثية راسخة، فالمملكة بحاجة لتوسيع الاستثمار وتفعيل الشراكات لتحقيق الأمن الغذائي.
وقال خبراء في تصريحات لـ"الغد"، إنه إلى جانب دعم البنية التحتية البحثية، كبنك البذور ومختبر الأنسجة، وإيجاد مظلة وطنية موحدة للبحث العلمي، لا بد أن يصبح البحث العلمي الزراعي قاطرة للتنمية المستدامة، ومصدراً للأمن الغذائي والاقتصادي للأجيال القادمة.
مظلة موحدة للبحث الزراعي
وفي السياق أوضح الخبير الدولي في مجال الأمن الغذائي د.فاضل الزعبي، أن تشجيع الاستثمار بالبحث العلمي الزراعي أصبح ضرورة وطنية لتحقيق الأمن الغذائي والاستدامة، بخاصة، في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه القطاع الزراعي في الأردن، من شح المياه وتغير المناخ إلى تقلبات الأسواق العالمية، بحيث يبرز الاستثمار بالبحث العلمي الزراعي كأحد أهم الأدوات الإستراتيجية لضمان الأمن الغذائي وتعزيز الاستدامة الاقتصادية.
وبين أن بيانات المركز الوطني للبحوث الزراعية تشير إلى أن الأردن بدأ مسيرته البحثية الزراعية منذ عام 1958، وتطورت هذه الجهود لتشمل اليوم أكثر من 20 محطة بحثية متخصصة بمختلف المحافظات، تعمل على تطوير أصناف مقاومة للجفاف والملوحة، وتحسين إدارة الموارد الطبيعية، وتبني تقنيات الزراعة الذكية مناخياً.
ووفقا للزعبي، يشكل بنك البذور الوطني الذي أُنشئ حديثا بالمركز الوطني للبحوث الزراعية إضافة نوعية للمنظومة البحثية، مشيرا الى انه يهدف لحفظ الأصول الوراثية المحلية وتوثيقها، وضمان استدامة التنوع الحيوي الزراعي.
وأشار إلى أن مختبر الأنسجة النباتية يبرز كأحد المرافق البحثية الحيوية التي تحتاج لتحديث وتوسعة، نظرا لأهميته بإكثار النباتات وإنتاج أصناف متكيفة مع الظروف القاسية مثل الجفاف والملوحة وارتفاع درجات الحرارة، وأن تطوير هذا المختبر وتزويده بالتقنيات الحديثة سيمنح الباحثين القدرة على تسريع إنتاج أصناف محسّنة، ويعزز من تنافسية الأردن في مجال الابتكار الزراعي.
وتابع، تبرز الحاجة الملحة لإيجاد مظلة وطنية موحدة للبحث العلمي الزراعي، تجمع تحتها الجامعات والمراكز البحثية والمؤسسات ذات العلاقة، وهذه المظلة ستسهم بتوحيد الأولويات البحثية، وتنسيق الجهود بين مختلف الجهات، وتجنب الازدواجية بالمشاريع، بما يضمن الاستخدام الأمثل للموارد المالية والبشرية.
كما ستتيح هذه المظلة بحسب الزعبي، تعزيز فرص التمويل المشترك، وتوجيه الاستثمارات نحو مشاريع إستراتيجية ذات أثر وطني، إضافة لتمكين الباحثين من تبادل الخبرات والبيانات، وخلق بيئة بحثية أكثر تكاملاً وفاعلية، مبينا أن وجود إطار وطني موحد للبحث العلمي سيعزز من قدرة الأردن على الاستجابة للتحديات الزراعية والمناخية، ويضاعف من مخرجات الابتكار، ويجعل القطاع البحثي أكثر جاذبية للشركاء الدوليين.
وأضاف، هناك تأكيدات لخبراء أن نسبة الفاقد الغذائي في الأردن تصل لنحو 30 % من الخضار والفواكه قبل وصولها للمستهلك، وهو ما يعادل خسائر بمئات الملايين من الدنانير سنويا، حيث إن الاستثمار بالبحث العلمي التطبيقي، كتطوير سلاسل تبريد منخفضة الكلفة أو تحسين تقنيات ما بعد الحصاد، يمكن أن يقلل هذه النسبة بشكل كبير، ويعزز القدرة التنافسية للمنتجات الأردنية في الأسواق الإقليمية والدولية.
وزاد كما أن نصيب الفرد من المياه في الأردن لا يتجاوز 60 م3 سنويا، مقارنة بالخط العالمي للفقر المائي البالغ 500 م3، وهذا الواقع يجعل من البحث العلمي الزراعي أداة لا غنى عنها لتطوير تقنيات ري حديثة، كالري المحوسب وأجهزة الاستشعار، التي يمكن أن تخفض استهلاك المياه بنسبة تصل لـ 40 % مقارنة بالطرق التقليدية.
وتابع: على صعيد التمويل، يبرز دور صندوق دعم البحث العلمي والابتكار الذي يموّل مشاريع تطبيقية ويشجع على تحويل نتائج الأبحاث لشركات ناشئة ومنتجات قابلة للتسويق، غير أن حجم الإنفاق على البحث العلمي في الأردن لا يزال محدودا، إذ لا يتجاوز 0.6 % من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بمتوسط عالمي يصل لـ 2.2 %، مبينا أن رفع هذه النسبة إلى 1 % على الأقل خلال السنوات الخمس المقبلة يمكن أن يضاعف من مخرجات الابتكار الزراعي ويخلق فرص عمل جديدة للشباب.
وأشار إلى أن تشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص يعد خطوة محورية، فالشركات الزراعية الكبرى يمكن أن تستفيد من نتائج الأبحاث لتطوير منتجاتها، فيما يضمن الباحثون التمويل والاستدامة لأعمالهم، كما أن التعاون مع الجامعات ومراكز الأبحاث الدولية يفتح المجال أمام نقل التكنولوجيا الحديثة وتبادل الخبرات.
وأوصى الزعبي، بزيادة مخصصات البحث العلمي الزراعي في الموازنة العامة، وربطها بمؤشرات أداء واضحة، وتقديم حوافز ضريبية للشركات التي تستثمر بالبحث والتطوير الزراعي، اضافة لإطلاق برامج تدريبية لرفع كفاءة الباحثين وربطهم بالمزارعين عبر منصات إلكترونية، فضلا عن تعزيز الشراكات الدولية للاستفادة من التقنيات الحديثة بالزراعة الذكية، وتشجيع ريادة الأعمال الزراعية عبر حاضنات أعمال متخصصة بالابتكار الزراعي، ودعم بنك البذور الوطني وتوسيع مختبر الأنسجة النباتية كأدوات إستراتيجية للابتكار الزراعي، اضافة لإنشاء مظلة وطنية موحدة للبحث العلمي الزراعي لتنسيق الجهود وتعظيم الموارد.
البحث العلمي ليس عملا خيريا
من جهته، قال وزير الزراعة الأسبق سعيد المصري، منذ ربع قرن، تغير مفهوم الثروة جذريا، حيث لم تعد المصانع والآلات والعقارات هي المحرك الرئيس للاقتصاد، بل أصبحت الأفكار والابتكارات والبرمجيات والسمعة المؤسسية- أي ما يسمى بـالأصول غير الملموسة تمثل الجزء الأكبر من قيمة الشركات والدول المتقدمة.
وأضاف، اليوم، أكثر من 80 تريليون دولار من القيمة الاقتصادية في العالم تأتي من هذه الأصول، بينما ما زالت معظم الدول النامية، ومن بينها الأردن، تعتمد على نموذج قديم يرى الثروة فيما يُبنى لا فيما يُبتكر.
وتابع، رغم ارتفاع مستوى التعليم والمهارات في الأردن، إلا أن اقتصادنا ما زال يعاني مما يسمى بـ "فخ القدرات"؛ أي القدرة على إنتاج المعرفة دون تحويلها لقيمة اقتصادية مضافة.
وزاد: جامعاتنا ومراكزنا البحثية تنتج أفكارا وبحوثا مهمة، لكن أغلبها يبقى حبيس الأدراج لغياب منظومة استثمارية تتبنى تحويلها إلى تطبيقات تجارية وصناعية، وهكذا، نمتلك القدرة ولا نمتلك التحويل.
وبين أن المطلوب اليوم، هو التحول من تمويل البحوث للاستثمار فيها "أي أن تُدار البحوث العلمية بعقلية استثمارية" وذلك عبر، إنشاء صناديق وطنية للبحث والتطوير تشارك بملكية براءات الاختراع الناشئة عن مشاريعها، وإشراك القطاع الخاص بتحديد أولويات البحث التطبيقي، بحيث تُوجه الجهود نحو حلول واقعية لمشكلات الإنتاج، والطاقة، والمياه، والزراعة ، فضلا عن تطوير مكاتب نقل التكنولوجيا داخل الجامعات، لتتولى تسويق نتائج الأبحاث محليا وإقليميا، مبينا أنه بهذه الطريقة، يتحول الباحث إلى رائد أعمال معرفي، والجامعة إلى مُسرّع ابتكار اقتصادي.
وقال، الاستثمار بالبحث العلمي ليس عملا خيريا، بل استثمار بعائد طويل الأجل، فكل براءة اختراع تسوق، وكل تقنية تستخدم، وكل فكرة تحول لشركة ناشئة، تعيد التمويل لمنظومة البحث نفسها إنها "دورة اقتصادية مغلقة".
ولفت إلى أن هذا هو المعنى العملي لـ "الاستدامة المعرفية"، أي أن تُغذي المعرفة نفسها بالتمويل والعائد دون الاعتماد على الموازنات الحكومية وحدها.
وأضاف إن الأردن يمتلك رصيدا علميا وبشريا مؤهلا، وجالية مغتربة ذات خبرات عالمية، وبنية تشريعية بدأت تواكب التحول الرقمي، وإذا ما أُنشئ صندوق وطني للأصول غير الملموسة يعيد استثمار عائدات الابتكار في دعم بحوث جديدة، فسيكون ذلك اللبنة الأولى لبناء اقتصاد معرفي مستدام يرفع من القيمة الحقيقية للناتج المحلي.
وأكد أن التحول نحو اقتصاد المعرفة لا يحتاج موارد إضافية، بل رؤية جديدة لإدارة الموارد القائمة، فالثروة لم تعد ما نملكه من حجارة وأرض، بل ما ننتجه من أفكار ومعرفة قابلة للتطبيق، وحين تصبح جامعاتنا وشركاتنا ومراكزنا البحثية شركاء في إنتاج الثروة المعرفية، سنكون قد انتقلنا من مرحلة القدرات إلى مرحلة العائد على المعرفة، ومن اقتصادٍ يستهلك ما لديه، إلى اقتصادٍ يُنتج ما يعرف.
دعم البحث العلمي
بدوره بين الباحث والخبير في الشؤون الزراعية والتنموية د. حسان العسوفي، أن البحث العلمي هو ركيزه أساسية لتقدم الشعوب وتطورها ومعيار بتقييم مؤشرات التطور الحضاري.
واضاف، للنهوض بأي من القطاعات الاقتصادية لا بد من دعم البحث العلمي وتشجيع الاستثمار بالبحث والتطوير في ذات القطاع.
وقال إن القطاع الزراعي واحد من أهم القطاعات الاقتصادية والاجتماعية في الدول النامية والمتقدمة على حد سواء، ولكي يأخذ دوره الحقيقي بدعم التنمية الاقتصادية، لا بد من تشجيع ودعم البحث العلمي لإيجاد الحلول المناسبة للعديد من التحديات التي تواجه القطاع الزراعي بكل مكوناته. الأمر الذي يتطلب مزيداً من الدعم والاستثمار في البحث العلمي ودعم أنشطته وتعميم مخرجاته.
وزاد، إن الناظر بحجم الدعم للبحث العلمي الزراعي، وغيره من القطاعات يجد أنه أدنى بكثير من المستوى المطلوب، ما يستوجب استثمارا تشاركيا بين القطاعين العام والخاص لدعم المشاريع والبرامج البحثية الهادفة لتحسين عجلة الإنتاج والتنمية الزراعية واستدامتها، مشددا على أننا أحوج ما نكون لبرامج بحثية تحاكي احتياجات القطاع والوقوف على مشكلات ضرورية تواجه المزارعين وهذا يتأتى عبر العمل التشاركي بين القطاعين والاستثمار الأمثل للموارد وخصوصاً في ظل التحديات المناخية وغيرها من التحديات في سلاسل التوريد من زراعة الأرض حتى تسويق المنتج النهائي.
وأوضح، للاستثمار بالبحث العلمي الزراعي، يجب تقديم الدعم لتسهيل مشاركة القطاع الخاص بتحديد الاحتياجات البحثية، وأيضا على القطاعات البحثية الحكومية من مراكز وجامعات تقديم مشاريع بحثية ذات قيمة ومخرجات تدفع بعجلة التنمية وتقدم الحلول في الوقت المناسب.