الغد
الخدمات السحابية التي تتصل بها هواتفنا وتعتمد عليها أجهزتنا الإلكترونية المختلفة، والتي تخزن البيانات والملفات الشخصية والمؤسسية، وتعالجها بالذكاء الاصطناعي وبغيره، وتتحكم بنا بقدر ما نتيجة لذلك، هي ذاتها الأدوات الأهم والأحدث في عالم التجسس والحروب، ليس فقط على المستوى التجاري، بل والمستوى الإستراتيجي والعسكري وصارت تلعب دوراً في العمليات التكتيكية من الملاحقة والاستهداف إلى اتخاذ القرار بالقتل.
ما كشفته صحيفة «الغارديان» البريطانية وشركاء إعلاميون عن حدود العلاقة بين وحدة 8200 -الذراع الاستخبارية الأشهر في الجيش الإسرائيلي- وشركة مايكروسوفت قدّم جديدا في المدى الذي بلغه التعاون بين شركات المعلومات الكبرى والجيوش الباطشة، وعرض مثالاً للحدّ الذي تلعبه هذه التقنيات في المراقبة والتخزين السحابي غير المحدود ونماذج الذكاء الاصطناعي.
كشف التقرير أن الجيش الإسرائيلي يخزّن ما يصل إلى «مليون مكالمة في الساعة» على خوادم مايكروسوفت ويعالجها ضمن مشروع ضخم، يحفظ أرشيفاً صوتياً لمكالمات الفلسطينيين، ويغذي آلة الاستهداف وقرارات القتل في غزة والضفة، وبالشراكة بين مايكروسوفت و»Open AI» لا يعود التخزين السحابي مجرد خدمة “محايدة”، بل بنية تحتية قتالية قادرة من خلال الذكاء الاصطناعي على توجيه النيران وتحويل أنفاس الناس إلى مؤشرات للإعدام، وفي كل خطأ أو «هلوسة» في معالجة الصوت العربي وهو كثير، تتسع الهوة الأخلاقية، وتزداد ضبابية الحدود بين المدني والعسكري، لتضع شركات التقنية الكبرى في قلب أسئلة بقايا الضمير، وأطلال القانون.
وإذا كان التحقيق قد خصّ مايكروسوفت في بحثه، فإن الشركاء الآخرين من - عمالقة الحوسبة السحابية جوجل وأمازون - لهم أيضاً مشروعهم المشهور «نيمبوس»، والذي يوفّر بنية سحابيّة متقدمة للحكومة والجيش في إسرائيل، وكان مثار احتجاجات داخلية وحقوقية واسعة، مما يطرح أسئلةً على البشرية: كيف يمكن أن نتعامل مع ظاهرة تسخير الشركات المدنية أدواتها لأهداف قتالية واستخبارية؟ لندرك أننا لسنا بإزاء «حوسبة سحابية» بقدر ما نحن أمام إعادة هندسة للفضاء المدني برمته، حيث تتضافر المنصات السحابية مع الذكاء الاصطناعي التوليدي، وتُنسج علاقات شراكة بين الجيوش، والتقنيات الفتّاكة، والثروات الهائلة ليصبح السؤال مركباً: كيف يمكن أن نضمن المدى الذي بلغته أو تسعى أن تبلغه هذه الإمكانات الهائلة في حياتنا ومماتنا؟
في كارثة غزّة هنالك مواقف مستترة اتخذت، وأعمال مورست في الخفاء، ظهر منها إلى العلن الكثير، وبقي الكثير بانتظار الكشف والإعلان، كبرت الأسئلة الصغيرة، وتحققت والهواجس ، ولعل من أبرز أمثلتها الانكشاف التقني والمعلوماتي : فالإمكانات التقنية باتت عنصراً استراتيجياً في علاقات الدول، في السلم كما في الحرب مثل: جمع البيانات وحفظها ومعالجتها، وتخزينها سحابيّا، ووضع ضوابط وحواجز للوصول إليها: وهذه جميعها تشكل أدوات سيادية جديدة، تتحكّم بها شركات ليست من الأرحام، ولا تُنتخب لكنها تُؤثر، وتفاوضها حكومات تعرف أن «الحياد» صار شيئاً من الرفاهية.
لذلك يتحتم على الدول اليوم قبل الغد مراجعة القوانين التي تنظم هذه العملية، والتعامل مع أمن المعلومات كقضية أمن قومي وإلا فإنها سوف تجد أن هذه البيانات الخطيرة قد أضحت سلعة يتاجر بها.