أخبار سوق عمان المالي / أسهم
 سعر السهم
Sahafi.jo | Rasseen.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
  • آخر تحديث
    17-Aug-2025

المراهنة على اقتصاد الخدمات في عصر الرقمنة

 الغد-محمد صالح

 
في خضم الثورة الصناعية الرابعة، حيث تُختزل حدود الزمان والمكان في شيفرات برمجية ومنصات رقمية، تبرز اقتصادات خدمية تزهو بناطحات سحابها اللامعة وخدماتها الفاخرة، لكنها بذات الوقت تفتقر إلى قاعدة إنتاجية صلبة. فهل يمكن لهذه الاقتصادات الخدمية المعتمدة على أمثال التقنية والتمويل والسياحة أن تصمد أمام تقلبات النظام العالمي؟ أم أنها مجرد واحات رفاهية مؤقتة، قابلة للانهيار مع هبوب أول عاصفة جيوسياسية؟ وبعبارة أخرى أيُعقل أن تُبنى الرفاهية المستدامة على خدمات رقمية ومالية فقط، بينما يظل الأمن الغذائي والصناعي رهين إرادة الآخرين؟ 
 
 
في ظاهر الأمر، تبدو الثورة الصناعية الرابعة امتدادًا طبيعيًا لما سبقها؛ قفزات تكنولوجية تزيد الإنتاجية وتقلل التكاليف. لكنها في واقع الأمر تنزع أكثر من أي وقت مضى إلى الافتراض بدل الواقع، وإلى المنصات بدل المصانع والمزارع، وإلى البيانات بدل الموارد الطبيعية. فبينما ترتكز هذه الثورة على التقنيات الناشئة، فإنها كثيرًا ما تُبنى على أرضية هشة من الاقتصادات الافتراضية والخدمات غير المادية.
الإشكالية الكبرى أن هذه الاقتصادات الخدمية، مهما بلغت من تطور ورفاهية، تظل هشة إن لم تُسند بقاعدة صلبة من الصناعة والزراعة والطاقة. فالتكنولوجيا لوحدها لا تُؤكل، ولا تُشرب، ولا تبني الجيوش، ولا تضمن السيادة على الغذاء أو الطاقة. وهذا ما يظهر جليًا في أوقات الأزمات أكانت اندلاعًا للحروب، أو تفشيًا للأوبئة، أو انهيار سلاسل التوريد. عندها تكتشف الدول «الراقية» التي تخلت عن الإنتاج المادي أن رفاهيتها مبنية على سلاسل إنتاج لا تملكها. وعلى الرغم من ازدهارها ظاهريا فإنها تظل رهينة الخارج، وقابلة للانهيار عند أول اضطراب.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل الجانب المضيء؛ فقد أتاحت التقنية لدول صغيرة مثل أستونيا وسنغافورة تحقيق ثروات هائلة عبر التخصص في الخدمات الرقمية أو اللوجستية، دون الحاجة إلى مصانع ضخمة. لكن هذا الجانب المضيء يحمل في طياته جانبًا مظلمًا يتجلى سواده إن أصبحت هذه الدول مجرد ضيوف دائمين على مائدة العولمة، حيث تُنتج القيمة المضافة في الفضاء الرقمي، لكنها تظل معتمدة على غيرها في الغذاء والطاقة والسلع الأساسية.
فبينما تحاول دول مثل سنغافورة الموازنة بين الخدمات والصناعة، ونجحت لحدٍ ما في بناء قطاع خدمات مالي وتجاري متقدم، مدعوم بصناعات عالية التقنية مثل الأدوية والإلكترونيات، واستثمرت في الأمن الغذائي من خلال المزارع العمودية والمخزون الإستراتيجي، اعتمدت دول أخرى على الريع الخدمي فقط وازدهرت بقطاعات مثل التكنولوجيا الصرفة والعقار والسياحة والترفيه والخدمات المالية، لكنها بذلك بقيت عرضة لصدمات العولمة كما حدث خلال جائحة كوفيد 19. وتتوسع مخاطر الاعتماد الأحادي على الخدمات لتشمل تهديدات متعددة كالتبعية التقنية، وهشاشة سلاسل التوريد، وتركز الثروة وعدم المساواة. 
إن بناء اقتصاد خدمي مستدام لا يمكن أن يتحقق دون دمجٍ متوازن بين القطاعات الخدمية والإنتاجية. فتقليل الهشاشة الاقتصادية يتطلب تنويعا مدروسا يُعزز من قدرات القطاعات الاستراتيجية كالصناعة الحقيقية، والزراعة الذكية التي تضمن الاكتفاء الذاتي، وخليط الطاقة المستدامة، لتكون هذه القطاعات أساسا ورافعة متينة للقاعدة الخدمية الرقمية.
إلى جانب ذلك، فإن تحقيق السيادة الرقمية لا يتم إلا عبر امتلاك البنية التحتية والتقنيات الأساسية بشكل حقيقي لا استعراضي، كالحوسبة السحابية المحلية ومنصات الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات وتنويع موردي التقنية، كل هذا يُعد ضرورة ملحّة لضمان الاستقلال التقني وتقليل التبعية.
السؤال الذي سيجيب عنه المستقبل هو هل سنشهد تحولًا في سياسات الدول الخدمية نحو الإنتاج، أم أن الأزمات القادمة ستكشف هشاشة هذا النموذج بشكل أقسى مما شهدناه أيام الجائحة.